اقتصاد و تسير بترولي
طبيب صالح يرحب بك في منتدى الاقتصاد و التسير البترولي و يتمنى لك عضوية مميزة بيننا و نرجوا الا تحرمنا من ردودك على المواضيع



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

اقتصاد و تسير بترولي
طبيب صالح يرحب بك في منتدى الاقتصاد و التسير البترولي و يتمنى لك عضوية مميزة بيننا و نرجوا الا تحرمنا من ردودك على المواضيع

اقتصاد و تسير بترولي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الشركـات متعددة الجنسيـة

اذهب الى الأسفل

الشركـات متعددة الجنسيـة Empty الشركـات متعددة الجنسيـة

مُساهمة من طرف طبيب صالح الجمعة أبريل 13, 2012 11:26 pm

. مدخل:

يعرف العالم اليوم تحولا كبيرا نحو نظام عالمي جديد، تسود فيه قيم الحرية والشمولية، على حساب السيادة والوطنية، والذي اصطلح على تسميته بالعولمة. غير أن هذا التوجه يعرف معارضة مزدوجة، فالبلدان النامية تعتبر هذه العولمة التي تصاغ معالمها اليوم تخدم مصالح الدول المتقدمة على حساب دول العالم الثالث. بينما يوجد داخل البلدان المتقدمة معارضة مهمة لهذا التوجه أيضا، بحيث تصفها المنظمات المدنية بالخادمة لمصالح الشركات متعددة الجنسية على حساب الشعوب.

ومنه يتبين أن دور هذه الشركات في تنامي مستمر، باعتبارها المحرك الرئيسي للنظام الاقتصادي الدولي الجديد. غير أن دورها في هذه العملية لم يكن وليد السنوات الأخيرة، وإنما نشاطها متجذر منذ سنين عديدة، لما تتميز به من هامش كبير للمناورة والاستفادة من مزايا تعدد الجنسية وعبور الحدود الوطنية. وهذا ما جعلها ذات آثار متنوعة على الاقتصاد الدولي والوطني على حد سواء.

ولعل أهم أثر لهذه الشركات على الاقتصاد الوطني يتمثل في الأثر الذي تحدثه على التشغيل، غير أن الأثر يختلف حسب درجة تنمية البلدان بين متقدمة ومتخلفة. وباعتبارنا نعيش في هذه البلدان الأخيرة، انصب اهتمامنا في هذا البحث على دراسة الأثر الذي يحدثه عمل الشركات متعددة الجنسية بالاستثمار المباشر على التشغيل في هذه البلدان. غير أننا استخدمنا عبارة العالم الثالث لتعيين البلدان التي تعرف تخلفا نسبيا في ميادين مختلفة، ونظرا لتداول هذه التسمية في التحليل الاقتصادي.

2. الإشكالية:

ولهذا سنحاول الإجابة من خلال هذا البحث على الإشكالية الرئيسية التالية:

ما هي الشركات متعددة الجنسية وأثرها على التشغيل في دول العالم الثالث؟

ومن أجل الإحاطة بهذا الإشكال، وجب علينا طرح الإشكاليات الفرعية التالية:

الإشكال الفرعي الأول: ما هو مفهوم واستراتيجية وآثار الشركات متعددة الجنسية؟

الإشكال الفرعي الثاني: ما هو التشغيل في دول العالم الثالث؟

الإشكال الفرعي الثالث: ما هو أثر الشركات متعددة الجنسية على التشغيل في دول العالم الثالث؟



3. أهداف البحث:

يهدف هذا البحث إلى الإجابة على الإشكال المطروح في الأعلى، والمتمثل في التعرف على الشركات متعددة الجنسية، وما تحدثه من أثر على التشغيل في دول العالم الثالث بالخصوص. ومن أجل بلوغ هذا الهدف، توقفنا في محطات ثلاث. بدءا بمحاولة التوسع والإحاطة بمفهوم واستراتيجية هذه الشركات وتأثيراتها المختلفة على الاقتصاد الدولي والوطني. فوصولا إلى دراسة التشغيل الذي تتميز به دول العالم الثالث، ثم انتهاء عند الأثر الذي تحدثه هذه الشركات على التشغيل في هذه الدول. نستخلص بعد ذلك بعض النتائج والتوصيات التي قد تفيد القارئ العربي والجزائري بالخصوص.

4. الدوافع الرئيسية وراء إجراء البحث:

وأنا طالب في الجامعة، شد انتباهي التوجه الجديد في المجال الاقتصادي الذي عرفته الجزائر في التسعينيات، والمتمثل بالخصوص في تشجيع الشركات متعددة الجنسية على الاستثمار مباشرة في البلد. بحيث قدمت لها عدة تحفيزات جبائية وغيرها، كما أن الأسباب التي ذكرت آنذاك من أجل اعتماد هذا التوجه الجديد، تمثلت بالخصوص في محاولة المحافظة نسبيا على مناصب الشغل الموجودة، في المرحلة الأولى، ثم خلق مناصب جديدة في المرحلة الثانية.

غير أن هذه الحجج طرحت عدة إشكاليات أخرى مناقضة لها، بحيث تؤدي هذه الشركات إلى فرض منافسة غير عادلة على المؤسسات الوطنية، مما يؤدي إلى إحداث أثر سلبي على التشغيل. فهذه التناقضات دفعت بي إلى التساؤل بدوري عن الجدوى الحقيقية التي توفرها هذه الشركات في هذا الميدان بالذات، وإذا كانت هذه الشركات مضرة، فلماذا تلجأ إليها بلدان العالم الثالث للتخفيف من حدة مشكلة التشغيل فيها؟ كما أن الموضوع حساس بالنسبة للجزائر، نظرا لتفتحها الاقتصادي وتوجهها نحو خوصصة القطاع العمومي.

فعزمت على إبعاد هذه الموضوع قدر الإمكان عن بعض الآراء الإيديولوجية والسياسية التي تناولت هذه الظاهرة بالدراسة، لعلي أوفق في التحلي بالموضوعية التي تفرضها مثل هذه البحوث العلمية.

فعرضت مشروع بحثي على بعض الأصدقاء، فوجدت منهم كل التشجيع، لأعرضه على أستاذي زبيري بعد ذلك فوجدت منه استعدادا كبيرا لمساعدتي من أجل إتمام هذا ا


الفصــل الأول::

مفهومها، واستراتيجيتها، وآثـارها
مقدمة الفصل الأول:

تعتبر الشركات متعددة الجنسية ظاهرة دولية معقدة تتميز عن الشركات وحيدة الجنسية بالطابع الدولي لنشاطاتها، بحيث تعمل على الاستثمار في دول متعددة لتستفيد بذلك من الميزات التي توفرها البلدان المستقبلة لاستثمارها. فتعمد هذة الشركات إلى تبني استراتيجيات متنوعة، تسمح لها بتخطي العقبات الوطنية والانسجام مع المحيط الدولي الذي تنشط فيه، من أجل التأثير على الاقتصاد الدولي والوطني المستقبل (المضيف) والمصدر (الأصلي).

فإذن، من أجل حصر هذه الظاهرة بالدراسة، تطرقنا إلى مفهوم هذه الشركات في المبحث الأول، ثم خصصنا المبحث الثاني لاستراتيجياتها، فآثارها في المبحث الثالث.

ومنه قسمنا هذا الفصل إلى المباحث التالية:
المبحث الأول: مفهوم الشركات متعددة الجنسية
المبحث الثاني: استراتيجيات الشركات متعددة الجنسية
المبحث الثالث: آثار الشركات متعددة الجنسية


المبحث الأول: مفهوم الشركات متعددة الجنسية

سنحاول في هذا المبحث أن نفهم ظاهرة الشركات متعددة الجنسية اصطلاحا، بدءا بتعريف هذه الشركات في المطلب الأول، أما المطلب الثاني يدور موضوعه حول التطور التاريخي والتنظيمي لهذه الشركات، أما المطلب الثالث فهو مخصص لشرح دوافع تعدد جنسية الشركات.

ولهذا قسم هذا المبحث إلى ثلاث مطالب وهي:

المطلب الأول: تعريف الشركات متعددة الجنسية
المطلب الثاني: التطور التاريخي والتنظيمي للشركات متعددة الجنسية
المطلب الثالث: دوافع تعدد جنسية الشركات




المطلب الأول تعريف الشركات متعددة الجنسية

لقد اختلف المختصون في تعريف الشركات متعددة الجنسية والتسمية التي تطلق على هذه الكيانات، فسميت بالشركات الدولية (Internationale) وبالعابرة للوطنية (Transnationales) ، وبالمتعددة الجنسية (Multinationales) على سبيل المثال، كما حاولوا التفرقة الموضوعية بينها[1]. غير أنها لا تمثل في الواقع إلا واجهات تعبر على نفس الكيان دون أي تغيير في تركيباته[2]، والمرتبطة بوجود ظاهرة واقعية متمثلة في الاستثمار الدولي. وأما سبب اختيار عبارة " الشركات متعددة الجنسية"، فيرجع لكونها تعد أكثر استعمالا وأوسع انتشارا وأكثر واقعية[3].

أما فيما يتعلق بتعريف الشركات متعددة الجنسية، فإن الأمر لم يستقر عند تعريف موحد وشامل، وإنما تعددت التعاريف بتعدد اختصاصات المهتمين بها. فقد صدرت عن مسيرين لهذه الشركات وقانونيين، ومنظمات دولية وأعمال جامعية (في ميدان الاقتصاد الدولي والصناعي، وفي تسيير المؤسسات). بحيث تستند هذه التعاريف إلى مؤشرات مختلفة للاستثمار الأجنبي المباشر كعدد البلدان المستقبلة واستراتيجيات الشركات وحجمها، وجنسية أصحاب رأس المال، وحجم رقم الأعمال وعدد العمال المشغلين في الخارج، …إلخ.

وبعيدا عن هذه التحديدات السابقة، سنورد التعريف التالي، والذي نحسبه قد أعطى الموضوع حقه، للأستاذ MICHALET والمتمثل فيما يلي[4]:

" … إما أن تكون مؤسسة أو مجموعة من المؤسسات، غالبا ما تكون كبيرة الحجم وتنطلق من قاعدة وطنية، كما تقيم في الخارج عدة فروع في عدة بلدان باعتماد استراتيجية وتنظيم عالميين".

فبعد ذكرنا لهذ التعريف لنترك صاحبه يعلق عليه بما يلي[5]:

أولا: " … أو مجموعة من المؤسسات، غالبا ما تكون كبيرة الحجم وتنطلق من قاعدة وطنية…".

أي أن الوطن الأصلي لهذه المؤسسات يوجد بالضرورة حيث تقع الشركة الأم، والتي توجد في بلد صناعي متقدم، كما تكون الشركة الأم رائدة في قطاعها في حالات كثيرة وتسبقه بنشاط تصديري قوي.

وبالتالي، فإن كل شركة متعددة الجنسية ذات الحجم الكبير تكون نابعة من قطاعات ذات تركيز صناعي قوي، والمتمثلة في الصناعة الغذائية والتأمينات، والصناعة والمناجم، والسينما والبنوك، …إلخ.

فإذا كان الحجم الكبير للشركة الأم يعد شرطا لإقامة فروع لها في الخارج، وذلك بعد سيطرتها على السوق الوطني، فإنه لم يعد الأمر كذلك اليوم. إذ قد تكون الشركة متوسطة الحجم أو صغيرة ولم تسيطر على السوق الوطني، إلا أنها لا تجد عائقا في فتح فروع لها في الخارج. بحيث أصبحت تنتشر باستمرار وذلك لامتلاكها ميزة تنافسية كبيرة تسمح لها بالدخول في هذا العالم الذي تحكمه التكنولوجيا والمعرفة.

إذن، فإذا كان الطريق نحو تعدد الجنسية سهلا بالنسبة للتجمعات الكبرى، فإن تعدد جنسية المؤسسات الصغرى والمتوسطة مرهون بمدى ارتباطها بالشركات متعددة الجنسية الأخرى بأشكال متعددة نذكر منها: المقاولة الفرعية ( La Sous Traitance).

ثانيا: " كما تقيم في الخارج عدة فروع في عدة بلدان …"

تعتبر أساليب وطرق توطين الفروع في الخارج متنوعة، إلا أنها تتمثل بالخصوص في الاستثمار المباشر المتميز والمختلف عن استثمار المحفظة من حيث إدخال مفهوم الرقابة فيه. فيجب على الشركات الأجنبية المستثمرة الحصول على قدر كاف من رأسمال الفرع من أجل أن تتحصل على رقابة واسعة. كما أن أشكال التوطن مهمة للغاية في تحليل ظاهرة تعدد الجنسية، وذلك لأثرها على اقتصاديات البلدان المستقبلة وكذا على استراتيجية وتنظيم الشركة.

فعندما تقوم الشركة متعددة الجنسية بشراء مؤسسة محلية، فإن ذلك لا يؤدي بالضرورة إلى رفع القيمة المضافة المحلية، بل يقتصر الأمر عادة على تحويل محض للملكية. فعملية شراء حصة أسهم مثلا، تسمح للشركة القضاء على المنافس والرفع من حصتها في السوق. فكما أن البحث عن الرقابة الكاملة بنسبة 100% في رأس المال تعتبر مكلفة، قد تدفع العوائق التشريعية الوطنية هذه الشركات إلى المشاركة في المؤسسات المحلية أو إقامة شركات مشتركة (Joint-Ventures)، وبالتالي ينشأ عن هذه الفرضية كيانا جديدا ينقسم رأسماله بين المساهمين المحليين والأجانب. إلا أن هذه المشاركة كثيرا ما تكون على أساس متفاوت %51/49.

إذن، تعد الشركات المشتركة أحد الأشكال الجديدة للاستثمار[6]، المتمثلة في اتفاقيات الرخص والمساعدات التقنية، وعقود التسيير ومصانع مفتاح في اليد، ومصانع منتج في اليد، والمقاولة الفرعية الدولية، والإعفاء من حق العبور، والإيجار، وأعمال التكوين المهني. غير أنه من المناسب أن نذكر هنا أن ظهور هذه الأشكال الجديدة للاستثمار جاء مع الشركات متعددة الجنسية الأوربية واليابانية.

كل الشركات متعددة الجنسية مجموعة معقدة من الفروع متوطنة في عدة البلدان. غير أنه لا يمكن إقامة معايير ومقاييس للحد الأدنى لتعدد الجنسية كالذي قامت به في منتصف الستينات « Harvard Business School » تحت إشراف الأستاذ Vernon، بحيث قام بانتقاء 187 شركة من بين 500 شركة كبرى كعينة تمثيلية. فخلص إلى أنها متوطنة في ستة بلدان على الأقل، مما دفع بفرنون إلى اعتماد التوطن في ستة بلدان مقياسا للحد الأدنى لتعدد الجنسية. لكن وحسب ميشالي دائما، يتعلق مقياس تعدد الجنسية بنوعية الشركات لا بكثرتها وبكميتها، بحيث يتمثل ذلك في وجود هياكل تنظيمية متطورة تضمن التكامل للمجموعة متعددة الجنسية، فلا يمكن اعتبار فرعا ما منعزلا عن أصله وغير مقيد بأمه وإنما يكون تابعا ومكونا للكل ( الشركة متعددة الجنسية)، بحيث يتم تحقيق الأهداف الشاملة للمجموعة.


المطلب الثانيالتطور التاريخي والتنظيمي للشركات متعددة الجنسية

أولا- التطور التاريخي

مهما قيل عن أول ظهور للشركات متعددة الجنسية، إلا أن البوادر الأولى للشكل الحديث لها ظهر مع القرن التاسع عشر، حيث كانت تنشط في مناطق النفوذ الاستعماري لوطنها الأم، والمتمثلة بالخصوص في الشركات الانجليزية، والهولندية، والفرنسية والسويسرية، والألمانية. لتتبع عن قرب الشركات الأمريكية التي فضلت أمريكا اللاتينية كقاعدة لعملياتها.

ويمكن أن نميز أربع فترات أساسية في تطور الشركات متعددة الجنسية وهي:

I. الفترة ما بين 1840-1914:

عرفت هذه الفترة توجه هذه الشركات نحو الاستثمار في الامبراطوريات الاستعمارية ومناطق نفوذ الوطن الأم، وذلك للبحث عن المواد الأولية واستغلالها. كما تشهد على ذلك ازدهار الشركات البترولية مثل Standard Oil و British Petroleum و Royal Dutch، والمنجمية مثل International Nickel و Asturienne des Mines، في سنة 1880.

أما الشركات المانوفاكتورية، بدأت في إنشاء وحدات إنتاجية خارج بلدانها ابتداء من سنة 1860، والتي نذكر منها على سبيل المثال Friedrich Bayer، الذي أخذ مشاركة في مصنع للأنيلين في ولاية نيويورك في سنة 1865، وذلك بعد سنتين فقط من إنشاء مصنع له للإنتاج الكيميائي في مدينة Cologne. كما أقام المخترع السويدي للديناميت Alfred Nobel مصنعا للمتفجرات في Hamburg في سنة 1866. ليليه في سنة 1867 المنتج الأمريكي لآلات الحياكة Singer، الذي أقام مصنعه الأول في الخارج في مدينة Glasgow بحيث أنتجت ووزعت منتجا بنفس الشكل ونفس العلامة في العالم، ومن ثم تعتبر أول شركة متعددة الجنسية في العالم[1].

ولا شك أن التحسن في وسائل النقل والاتصال في الفترة السابقة للحرب العالمية الأولى، والمتمثلة في تطور الملاحة البخارية والنقل بالسكك الحديدية والتلغراف، جلب انتباه الصناعيين نحو الأسواق الأجنبية. بحيث سمح لهم بالرقابة النسبية على الفروع البعيدة. كما لاحظ هؤلاء الامتيازات، التي يوفرها تصنيع المنتج في الخارج بالقرب من المستهلك النهائي، بدلا من تصنيعه في البلد الأصلي مع تحمل أعباء النقل، بالإضافة لإلى الوطنية المتزايدة.

كما تميزت سنوات 1880 و 1890 بتركيز صناعي مكثف في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تجمعت أكثر من 5000 شركة حول 300 احتكار (TRUST) مسيطر على الصناعة، بالرغم من وجود عدد كبير من الشركات الصغيرة. فقد تفاجأ البريطانيون في سنة 1901 عندما اكتشفوا أم المصنع Westing House يقبع تحت الرقابة الأمريكية، كما أن Ford تنتج ربع السيارات المصنعة في بريطانيا في سنة 1914[2].

II. الفترة ما بين 1914-1945:

كانت الوضعية في الفترة ما بين الحربين العالميتين سيئة على توسع الشركات متعددة الجنسية ونموها، نظرا لانتشار نفسية الحرب، بحيث كانت كل الظروف تنذر بوشوك انفجار حرب أخرى مثل الحرب العالمية الأولى. مما دفع بالحكومات إلى البحث عن الاكتفاء الذاتي في المجال الصناعي، وتبني إجراءات تمييزية ضد الأجانب. بحيث بلغت الوطنية ذروتها في ألمانيا النازية، فقد كانت تفرض على الشركات التعهد بأن تكون ألمانية خالصة، وبعيدة عن أي رقابة أجنبية. كما ساد نفس هذا الجو في كل مكان، ففي الولايات المتحدة الأمريكية هاجم البرلمان والصحافة أكبر منتج للريون (Rayonne) في العالم، والمتمثل في American Viscose Corp والذي ينتمي للشركة البريطانية Courtaulds، حتى أن الحكومة الأمريكية وضعت سنة 1941 شرطا لتقديم مساعدة ( قرضا) لبريطانيا، بأن تبيعها الشركة بسعر رمزي.

أما الوضعية النقدية شكلت عائقا رئيسيا آخر للاستثمارات الدولية، فقبل 1914، كانت قاعدة الذهب هي السائدة في التعاملات النقدية الدولية، كما أن رأس المال كان ينتقل دون عوائق بين البلدان والتضخم لم يكن مشكلا خطيرا، أما بعد الحرب العالمية الأولى فقد عمت الفوضى، وانتشر التضخم بشكل كبير، ليتبع بانكماش اقتصادي أفقد الثقة في النقود وظهر التحكم في الصرف، ليتوج الأمر بظهور أزمة 1929 التي سببت انهيارا فادحا لمستوى المبادلات الدولية.

III. الفترة ما بين 1945-1970:

تميزت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية بتوسع هائل في الاستثمار الدولي المباشر، وبالخصوص ما قامت به الشركات متعددة الجنسية الأمريكية. فحتى نهاية هذه الفترة كانت حصة الشركات الأمريكية من كل الاستثمارات الأجنبية المباشرة في العالم تتراوح بين %60 و %65.

فمنذ سنة 1957 تفوقت الشركات الأمريكية عن نظيراتها الأوروبية، بحيث بلغت قيمة استثماراتها الأوربية المباشرة حوالي 4.151 مليون دولار، بينما بلغت قيمة الاستثمارات الأوربية في الولايات المتحدة حوالي 3.753 مليون دولار. ومنذ ذلك الحين تخلفت أوروبا في هذا المضمار حتى نهاية سنة 1962، فبلغت قيمة الاستثمارات الأوروبية في الولايات المتحدة الأمريكية حوالي 8.510 مليون دولار فقط.

فمنذ البداية استفادت الشركات الأمريكية أكثر من غيرها من مميزات التغيير التي طرأ بعد انتهاء الحرب. فمنذ السنوات الأولى تمكنت من تحطيم منافساتها، إما كليا أو جزئيا. فعندما وجدت الشركات الأوروبية صعوبات للاستثمار في الخارج، نظرا للصعوبات المالية التي واجهت حكوماتها، كانت الشركات الأمريكية تتمتع بحرية كبيرة للاستثمار في الخارج، كما تلقت تشجيعا مهما في هذا الاتجاه، من أجل تخفيض القروض الرسمية والهبات التي تحتاجها أوروبا من أجل استرداد عافيتها الاقتصادية.

فاتخذت الحكومات الأمريكية خطوات عملية لتشجيع شركاتها على التوجه نحو الخارج،و ذلك بعقد اتفاقات مع عدد من الحكومات الأجنبية لمنع الازدواج الضريبي،و تقديم ضمانات لاستثماراتها ضد القيود التي تحد من ترحيل الأرباح إلى البلد الأم.

و في مقابل هذا، رحبت الحكومات الأوروبية من جانبها بالمستثمر الأمريكي، باعتباره مساهم مهم في إعادة بناء اقتصادياتها التي دمرتها الحرب. بحيث أقامت عدة حكومات أوروبية مكاتب لها في الولايات المتحدة الأمريكية، من أجل جذب الشركات الأمريكية إلى بلدانها، وذلك بتقديم تحفيزات مالية وجبائية.

كما تجدر الإشارة إلى إنشاء " المجموعات الاقتصادية الأوروبية " أو " السوق الأوروبية المشتركة " في سنة 1957 كان له تأثيرا حاسما على موقف الشركات الأمريكية من أجل الاستثمار في أوروبا. بحيث تضاعفت ممتلكات الشركات الأمريكية في أوروبا بين عامي 1957 و 1962 ، كما تضاعفت مرة أخرى بين سنتي 1962 و 1967 ، ليتحول التركيز من بريطانيا إلى الدول الأعضاء في السوق. وبذلك حق تسمية هذه الفترة بالغزو الأمريكي.


IV. الفترة ما بعد 1970:
عرفت هذه الفترة بالهجوم المضاد الأوروبي واليابان. فمع بداية سنوات 1960، بدأت البلدان الأوروبية تعي هشاشة هياكلها الإنتاجية بالمقاربة مع الشركات متعددة الجنسية ذات الإدارة الأمريكية. فعمدت بعض البلدان الأوروبية إلى سياسة صناعية مدعمة للقطاع الثانوي ( الصناعة) وذلك بتجميع الصناعات الدقيقة والكيميائية وغيرها، بحيث عرف قطاع الكيمياء في فرنسا حجما دوليا وذلك بتشكيل شركات مثل Pechiney Ugine و Rhône Poulene و Saint-Gobain. كما تم إنشاء مجموعات حكومية مثل Elf-Erap في مجال التعدين والبترول.

كما قامت أهم البلدان الأوروبية بإعادة هيكلة صناعتها مما جعل الشركة الإيطالية Montedison أحد الكبار العالميين في مجال الكيمياء. أما في ألمانيا، فتكونت مجموعة AEG-Telefunken في مجال البناء الكيميائي والإلكتروني. كما تجمع منتجو السيارات بمساعدة الدولة تحت British Leyland.

غير أن هذه الإجراءات السابقة المقررة في إطار وطني نجحت جزئيا في خلق شركات أوروبية تعبر حدود بلدانها. ولعل الوجه الآخر لهذه الوضعية، يتمثل في تشجيع الحكومة الأمريكية لهذه الشركات، بالإضافة إلى توجه بعض ولاياتها الأقل تصنيعا نسبيا نحو الصناعيين الأوروبيين لحثهم على القيام باستثمارات مباشرة فيها.

غير أن هذا التطور المحتشم لتعدد الجنسية من أصل أوروبي سمح بظهور قطب ثالث، وهو اليابان
[3].

في الأخير، يجب أن نذكر أن بروز الشركات متعددة الجنسية لم يعد خاصا بالدول المتقدمة، وإنما اتسع إلى بعض البلدان النامية مثل الصين، البرازيل، الهند، الأرجنتين، جمهورية كوريا، تايوان، هنغ كنغ، ماليزيا، …إلخ

ثانيا – التطور التنظيمي

تعتبر الشركات متعددة الجنسية الشكل المتطور والراقي لأية شركة، فهذا التطور راجع للصراع القائم بين الهياكل التنظيمية الرئيسي


المطلــــــــب الثـــــــالـــــثدوافـــــــــــــــــــع تعــــــــــدد الجنسيـــــــــة

أولا- التفسيرات التقليدية لتعدد الجنسية
I. الحصول على المنتجات الأولية:

يعتبر الحصول على المنتجات الأولية السطحية والباطنية عاملا رئيسيا لتفسير الأشكال الأولى من تعدد الجنسية، بحيث ارتبطت الشركات متعددة الجنسية للقطاع الأولي بالمرحلة الاستعمارية. فخلال الخمسينات والستينات، عرف هذا القطاع تركيزا متسارعا أدى إلى القضاء على الشركات الصغيرة والمتوسطة في التجارة الدولية لصالح الشركات متعددة الجنسية.

فحسب تقرير CNUCED [1]، في سنة 1980 مثلا، كانت نسبة رقابة هذه الشركات على التجارة العالمية للقمح والقوة، والذرة والكاكاو، والشاي تقدر بحوالي %90-85، كذلك الأمر بالنسبة للمنتجات الأولية الأخرى. ونظرا لوجود ارتباط وثيق بين سعر المواد الأولية وكلفة الانتاج، تصبح مراقبة مصادر هذه المواد ضرورية بالنظر إلى المنافسين في نفس الإنتاج. فبالإضافة إلى أن شراء البترول مثلا من شركات أخرى قد يجعل المستثمر ( مصنع لتكرير النفط مثلا) غير منافس في السوق، يمكنه أيضا أن يجد نفسه في حاجة إلى تموين ( ندرة في التموين) [2].

II. عوائق التجارة الدولية:

تعتبر الحواجز الحمائية وتفضيلات المستهلكين، وتكاليف النقل والاختلافات في الفوارق النقدية، عوامل محرضة للشركات على استتبدال عملية التصدير بالإنتاج في الموقع.
1. الحواجز الحمائية:

يمثل وجود حواجز حمائية محددا رئيسيا للإنتاج في الخارج، حيث تستبدل الصادرات بالتوغل في الأسواق الخارجية، وذلك عندما يحدد البلد المستقبل حصصا (Quotas) أو أي طريقة أخرى من أجل الحد من الواردات، وحتى لا يترك خيارا آخر للمصدرين للمحافظة على وجودهم في السوق المحلية المحمية إلا الاستثمار في الموقع. ولعل الوسيلة الأكثر أهمية في الحماية تتمثل في التعريفات الجمركية[3].

فعندما تخضع دول معينة صادرات مؤسسة من دولة أخرى لتعريفات جمركية عالية، يصبح أول بديل للتصدير المباشر نحو السوق المستهدفة، يتمثل في إقامة فرع ( أو فروع) لها في بلدان مجاورة للبلد المستهدف، من أجل التهرب من التعريفة الجمركية الخاصة، أو إقامة فرع إنتاجي في البلد المستهدف مباشرة[4].

2. تكاليف النقل:

تمثل تكاليف النقل عائقا آخر للتصدير، بحيث ترفع من تكاليف السلع وبالتالي من ثمنها وتخفض من تنافسيتها. فيصبح نقل العملية الإنتاجية إلى البلد المستهدف وسيلة لاجتناب تكاليف النقل المرتبطة بالتصدير. غير أن هذا العامل يؤخذ بالاعتبار في حالات نادرة، حيث ترتبط بالخصوص في المنتجات الثقيلة والمواد الغذائية سريعة التلف. فيصبح هذا العامل مهما في استراتيجية الشركات المنتجة للأنابيب والغاز مثلا[5].

3. تفضيلات المستتهلكين:

يتعلق هذا العامل بوطنية المستهلكين المتفاوتة من بلد إلى آخر، بحيث يميلون إلى اقتناء المنتجات الحاملة لعنوان الإنتاج المحلي. كما قد يحدث العكس، فقد يفضل المستهلكون المحليون كل ما هو أجنبي. فالتحليل هنا لا يتمثل في إشباع أذواق المستهلكين بقدر وجود سوق في الخارج تدفع لإقامة وحدة إنتاجية مربحة في عين المكان[6].

4. الفوارق النقدية:

إن اختلاف معدل التضخم والفائدة من بلد إلى آخر يمثل محددا هاما لحركات رؤوس الأموال، بالإضافة إلى تغييرات أسعار الصرف. فقيمة العملة العالية تلعب دورا نسبيا عند التصدير، وعاملا إيجابيا يدفع إلى تعدد الجنسية، فتعتبر الأصول الأجنبية حيث العملة رخيصة بالنسبة للشركات الباحثة عن توطن بعملية شراء المؤسسات المحلية، وبالمشاركة بالأسهم أو إقامة وحدة جديدة[7].

غير أن عامل سعر الصرف ورغم فائدته يعرف عدة تقلبات، مما يؤثر بدوره على قرار الاستثمار الأجنبي المباشر في المدى الطويل. مما يجعل التحويلات النقدية تفسر حركة رؤوس الأموال في المدى القصير كاستثمارات المحفظة.

فبالإضافة إلى سعر الصرف، يمكن أن يحصل استثمارا مباشرا كمحاولة لمداورة التنظيم الحكومي، مثل الجباية الثقيلة[8]. بحيث تلجأ المؤسسات إلى بعض البلدان التي تعرف بالجنات الجبائية، بحيث تستعمل كملاذ ضد الضرائب الخاصة والضرائب على المداخيل العالية[9]، ومن خصائصها:

- معدلات منخفضة للضرائب؛

- السر التجاري والمالي؛

- حد أدنى من الاستقرار السياسي والاقتصادي؛

- هياكل قاعدية متطورة؛

- أهمية نسبية للقطاع البنكي.

كما تشترك كل الجنات الجبائية في تفضيل الرأسمال الأجنبي عن نظيره الوطني. غير أن قائمتها متغيرة، فيمكن أن نذكر منها اللوكسمبورغ ولشتنشتاين و البهاماس وسويسرا.

III. تكاليف اليد العاملة:

إن تعدد جنسية المؤسسات ناتج عن ميزات تدويل الإنتاج، بحيث يتمثل نقل الإنتاج إلى مكان ما في إرادة تخفيض التكاليف المختلفة وخاصة التكاليف الأجرية. فتستغل الشركات متعددة الجنسية المناطق حيث التكاليف الأجرية منخفضة. غير أن أغلبية الاستثمارات الأجنبية المباشرة تتركز في البلدان المتقدمة، وحتى في البلدان النامية، يتركز الاستثمار الأجنبي المباشر في البلدان الصناعية الجديدة، حيث الأجور أكثر ارتفاعا في العالم الثالث.

وبالتالي هناك عوامل أخرى كاختلاف إنتاجية العمل[10]. فحتى وإن حققت بلدان العالم الثالث اقتصادا في الأجور، إلا أنها كثيرا ما ترفض بالنظر إلى التكاليف المرتفعة للهياكل القاعدية وتكوين الأفراد، والتي تعتبر ضرورية.

بيد أن هذا العامل يلعب دورا مهما عندما لا يتطلب الاستثمار تجهيزات ثقيلة ويد عاملة عالية التأهيل، مثل الميكانيك الصغيرة وصناعة الألبسة[11]. أما فيما يخص انتقال الاستثمارات بين الدول المتقدمة، فيعتبر الفارق بين التكاليف الأجرية عاملا حاسما. فقد كانت التكاليف الأجرية الأوروبية في سنوات الستينات منخفضة إلى نصف ما كانت عليه في الولايات المتحدة الأمريكية، مما حفز الشركات الأمريكية على غزو السوق الأوروبية. ولما اختفى هذا الفارق، عرفت الاستثمارات الأوروبية تصاعدا في القارة الجديدة مند منتصف السبعينات، وذلك لانخفاض التكاليف الاجتماعية في الولايات المتحدة الأمريكية، كما أن الأجور ارتفعت بوتيرة منخفضة عما كانت عليه في أوروبا. بالإضافة إلى أن قواعد اللعبة الاجتماعية أكثر مرونة، كالتفاوض مع النقابات وظروف تسريح العمال[12]

المبحث الثاني:استراتيجيات الشركات متعددة الجنسية

إن ديمومة وبقاء أي شركة مرهون باعتمادها على استراتيجية تضمن استمراريتها، ونموها في محيط متقلب وعشوائي. وباعتبار أن محيط نشاط الشركات متعددة الجنسية أكثر تقلبا من غيره، يصبح من الضرورة بمكان، أن تعتمد هذه الشركات على استراتيجية خاصة بها.

ولعل أول خطوات هذه الاستراتيجية تتمثل في إعداد خطط لجميع المستويات ولفترات مختلفة، من قصيرة إلى متوسطة، فطويلة المدى. وهذا ما سنتطرق إليه في المطلب الأول. أما المطلب الثاني فيتمثل في استراتيجية الاستثمار، لنتطرق بعدها إلى استراتيجية هامة أخرى والمتمثلة في التمويل، وذلك في المطلب الثالث. لنصل في الأخير إلى محاولة حصر استراتيجية التسويق في المطلب الرابع.

ولهذا قمنا بتقسيم المبحث إلى المطالب الأربعة التالية:

المطلب الأول: التخطيط في الشركات متعددة الجنسية
المطلب الثاني: استراتيجية الاستثمار في الشركات متعددة الجنسية
المطلب الثالث: استراتيجية التمويل في الشركات متعددة الجنسية

المطلب الرابع: استراتيجية التسويق في الشركات متعددة الجنسية

المطلــــــــب الأول:التخطيط في الشركات متعددة الجنسية

تعتمد الشركات متعددة الجنسية على استراتيجية خاصة بها، لتحقيق غاياتها وأهدافها العامة على المدى الطويل، والمتمثلة بالخصوص في العيش والربح والنمو. فيعتبر الأول أهم هدف على الإطلاق، باعتباره يرتبط أساسا بوجود الشركة ككائن حي[1]. أما الربح، فيتمثل في تعظيم ربح المجموعة ( الشركة الأم)، حتى وإن أدت إلى الإضرار بربحية بعض شركاتها التابعة والمنتسبة لها في البلاد المضيفة، باعتبار أن الشركات التابعة تخدم أهداف ربحية الشركة الأم وليس تحقيق أقصى ربح لها[2].

بينما يعتبر النمو صمام الأمان، تضمن بموجبه الشركات مكانة في السوق وتحافظ بالتالي على حصتها وسط منافسة شديدة، تفرض عليها بالضرورة نموا بنفس وتيرتها وإلا تتخلى عن حصتها في السوق للمنافسين. وبالتالي لن تحقق ربحا ولا حياة[3].

غير أن تحقيق معدل نمو مرضي للشركة لا يحصل إلا عبر تخطيط محكم يبلغ مداه سنين طويلة، مما جعله أحد الخصائص الرئيسية للوحدات الإنتاجية الكبيرة، التي نخلت عن قوانين السوق لصالح إعداد خطة لنمو الشركة، باعتباره الشكل الجديد الذي تفرضه التكنولوجيا[4].

ومنه يعتبر المخطط الوسيلة الأساسية لتطور الشركات متعددة الجنسية، وذلك بربط نشاطات مختلف الفروع، وتحقيق نظرة شمولية.

أولا- خصائص التخطيط الطويل المدى في الشركات متعددة الجنسية

تعتبر وظيفة التخطيط حبل الرقابة الموحد لكل الوحدات المبعثرة للشركة، غير أن صعوبة إعداد مخططات تفصيلية مماثلة للشركات الوطنية الكبيرة، يدفع إلى اعتماد تخطيط استراتيجي، وذلك للطابع الدولي لعمليات الشركات متعددة الجنسية، بغية تحقيق الأهداف في المدى الطويل باعتماد السياسات المناسبة لتحقيقها، بحد أدنى من التكاليف وتصحيح دائم للإجراءات المعتمدة[5].

غير أن هذا النوع من التخطيط يتكفل به المقر المركزي، حيث يعد خططا لكل الفروع في الخارج بما تتطلبه التوجهات الاستراتيجية الدولية الشاملة للشركة[6]. وذلك باعتماد خطة تراعي مجمل الأهداف والوسائل ذات الطبيعة " السياسية – الاستراتيجية"، وتمتد على فترات زمنية تفوق خمس سنوات.

أما سلسلة الخيارات فتتمثل فيما يلي: التنوع الداخلي والخارجي، الاستثمارات، توطنات جديدة، البحث والتطوير، التمويل، البيع، تثبيت الأسعار، علاقات عامة، العلاقات مع العمال، أنظمة المعلومات الداخلية، ترقية المدراء واختيارهم، تكوين المدراء، …إلخ. إذ تسجل هذه القرارات في فترة طويلة، غير أنها لا تخضع لنفس المدة.

ثانيــــا- أنواع التخطيط

من البديهي أن يختلف التخطيط باختلاف نوع الشركة والعلاقات التنظيمية السائدة فيها، وسنقتصر على ذكر ثلاثة أنواع متعارف عليها وهي[7]: الشركات المنظمة حسب التقسيم الجغرافي وأنواع المنتجات وحسب الهيكل التطوري.

I. التخطيط في الشركات المنظمة حسب المناطق الجغرافية[8]:

عموما، تتميز هذه الفئة من الشركات بشبه سيطرة للوحدات الوطنية، غير أن المقر المركزي أكثر نشاطا في مجال التخطيط والمراقبة، بحيث يتمتع بهيئات مكلفة بتنسيق نشاطات الفروع حسب المنتجات. كما تتمتع الفروع باستقلالية معتبرة من أجل تكييف منتجاتها وأسلوبها مع الفرص والحاجات المحلية.

ففي المستوى الترتيبي، يتعامل المقر المركزي مع عدد من مقرات الفروع، والتي تشبه كثيرا الشركات الوطنية المستقلة، حيث تشتمل على قسم أو عدة أقسام لكل مجموعة رئيسية من المنتجات والوظائف المرتبطة بها. فيعد بذلك المقر ( للمدى الطويل) الأهداف العامة، والمتمثلة في النمو والمردودية والأخطار المقبولة. فيحدد نشاط المجموعة حسب مجموعات المنتجات بدلالة إمكانيات كل اقتصاد وطني للنمو وأخطاره الخاصة.

وبالتالي، تتبنى الفروع تخطيطا مماثلا للتخطيط الاستراتيجي الخاص بالشركات المستقلة، حيث يعد كل فرع استراتيجيته الخاصة. غير أن أهدافها تتناسب مع متطلبات المقر. فيعتبر المحيط الاقتصادي لكل فرع المحور الأساسي للفرص والتهديدات، بحيث تقدم الأقسام الرئيسية مخططات تظهر حصة الموارد المخصصة لها والموجهة للاستثمار ( للتنويع أو للبحث والتطوير مثلا)، وذلك بعد التشاور والحصول على المعلومات من المقرات الوطنية المحددة لمجال النشاط والنتائج المنتظرة. ليتم بعد ذلك إعداد إمكانات التوسع المستقبلي.

المطلب الثاني:إستراتيجية الاستثمار في الشركات متعددة الجنسية

مما لا شك فيه، أن اعتماد الشركات متعددة الجنسية على إستراتيجية استثمارية، يعتبر الخيار المبدئي الأول الذي تسعى من خلاله إلى التوسع نحو أسواق جديدة، وذلك بوضع سياسة استثمارية تضمن لها اتخاذ القرار المناسب للاستثمار، وكذا اعتماد الأساليب المناسبة للتوطن.

أولا – قرار الاستثمار[1]:
يعتبر قرار الاستثمار في الخارج نابع عن الخوف من فقدان السوق الأجنبي من طرف مجموعة من رجال الأعمال الأجانب، أو من موزعين للسلع المصدرة من طرف الشركات، أو من ممثلي الحكومات. أما قرار الاستثمار ونوعيته، فيتأسس بالدرجة الأولى، بناء على تقييم درجة الخطر المحتمل في كل بلد مستقبل، وذلك بعد تحليل المناخ الاستثماري فيه، حيث تفاضل الشركة بين قرارين مختلفين للاستثمار وهما[2]:

I. يتمثل القرار الأول في استثمارات المحفظة المتعلقة بالتوظيفات المالية ( شراء أسهم وسندات الشركات)، غير أن هذا النوع من التوظيفات لا يستلزم المشاركة في تسيير الشركات الأجنبية.

II. يتمثل الثاني في الاستثمار المباشر في الخارج، حيث يهدف إلى تحقيق إنتاج سلع أو خدمات خارج الحدود الوطنية للشركة، وذلك بالمشاركة في تسيير الشركات الأجنبية.

أما المحددات الأساسية للمناخ الاستثماري، فتتمثل في الاستقرار السياسي ومعدل التضخم، والاستقرار النقدي والقوانين المختلفة المؤثرة على الاستثمار، …إلخ، والتي تعتبر معطى خارجي له أهميته البالغة في اتخاذ القرار لما يشكله من خطر متحكم فيه من طرف هذه الشركات. مما يدفعها إلى اعتماد استراتيجية معاكسة من أجل التخفيف منه، وذلك بلجوئها إلى الاستثمار السلبي لتفادي التكاليف المرتفعة التي تجعل من الاستثمار غير مربح، وذلك بتقليص الاستثمار في البلد وكذا تحويله من بلد إلى آخر أكثر مردودية. غير أن هذا النوع من الاستثمار السلبي الإرادي، يقابله استثمارا سلبيا لا إراديا والمتمثل بالخصوص في التأميمات ومصادرات أصول الشركات من طرف الحكومات[3].

أما المعطى الآخر المحدد لقرار الاستثمار فيتمثل في تحليل المنافسة في البلد، وذلك بدراسة كل ما يحيط بالمنتج.

ثانيا – أساليب التوطن:[4]
يمثل أسلوب التوطن المرحلة اللاحقة لقرار الاستثمار، المرحلة اللاحقة لقرار الاستثمار، حيث يحتل مكانة مهمة في استراتيجية نمو الشركة ومحددا لنوع العلاقة بين الفروع والبلد المستقبل. فيعتبر أسلوب التوطن على شكل الملكية المختار للفروع من خلال المساهمة في رأس ماله. مما يؤدي إلى وجود أشكال متنوعة من الفروع ( حسب درجة الملكية والسيطرة للشركة الأم)، وكذا إنشاء وحدات جديدة في البلد المستقبل.

المطلب الثالث:استراتيجية التمويل في الشركات متعددة الجنسية

بعدما تحدد الشركات متعددة الجنسية نوع الاستثمار الذي يسمح بتحقيق إستراتيجية التوسع، تجد هذه الأخيرة نفسها في مواجهة خيارات متعددة لتمويل مشاريعها الخارجية، والتي يمكن تجميعها حول محورين مختلفين ومتكاملين وهما: التمويل الداخلي والتمويل الخارجي[1].

أولا – التمويل الداخلي
يعتبر هذا النوع من التمويل الشكل الأول لتمويل الشركات، والمسمى أيضا بالتمويل الذاتي (Autofinancement). ففي تاريخ الرأسمالية، عندما كانت الصناعة البريطانية مسيطرة على الإنتاج العالمي، لم تكن بحاجة إلى وجود رؤوس أموال خارجية، حيث كانت أرباحها تكفي لتمويلها شبه كليا[2]. كما أن هذه الأرباح كانت تمثل ثلثي الأموال المعاد استثمارها محليا بين 1960 و 1967، وذلك قبل دفع أرباح الأسهم. غير أن هذه النسبة تختلف من شركة لأخرى، بحيث قد تمثل أكثر من ثلاثة أرباع المصادر المالية الإجمالية للشركة، بينما ثلثي هذه الأرباح يعاد استثمارها من طرف الفروع، والتي تسمى بالتمويل الداخلي، حيث تمد ثلاثة أخماس حاجات استثمار الشركات تقريبا.

غير أن المعيار الذي يسمح بحساب التمويل الداخلي يتركب من ثلاثة عوامل وهي: معدل النمو، المردودية، وسياسات ترحيل الأموال. فقدرة الفروع على التمويل داخليا لحاجاتها الاستثمارية، تنخفض بارتفاع معدل نموها، إلا إذا كانت نسبة الأرباح مرتفعة كفاية، أو تكون أرباح الأسهم متواضعة نسبيا، أو الاثنين معا. إلا أن رقابة المسيرين تكون أكثر وضوحا في حالة سياسات الترحيل للأرباح (Les Politiques de Rapatriement).

I. سياسات ترحيل الأموال:
ترتبط سياسات ترحيل الأموال بتدخل عوامل متعددة، والتي تحدد الطريقة التي تلجأ إليها الفروع من أجل توصيل أرباحها إلى الشركة الأم. ولعل من أهم هذه العوامل نذكر ما يلي:
1. الجباية على مختلف أنواع المدفوعات (Versements)؛
2. سلوك مسيري الشركة الأم تجاه الأخطار ( الصرف مثلا)؛
3. الحاجات المالية من أجل إعادة الاستثمار للفرع، خاصة في بداية تطور الفروع؛
4. حاجة الشركات الأم إلى رؤوس الأموال؛
5. درجة استقلالية الفرع أو وجود مساهمة بالأقلية في الفرع؛
6. قوانين ترحيل الأرباح المطبقة على الشركة الأم في البلد الأصلي.

II. آلية أسعار التحويل: [3]
تعتبر هذه الآلية عن التحكم في الأسعار، إما بالتخفيض أو بالرفع التعسفي، وذلك من أجل التهرب من الضريبة على أرباح الشركات، وعلى الأرباح المحولة إلى الشركة الأم. كما تعتبر أداة فعالة لتحويل الأرباح نحو الفروع غير الإنتاجية الخاضعة لضريبة منخفضة، والمتوطنة مثلا حيث تطبق تشريعات خاصة في هذا المجال كالجنات الجبائية ( Les Paradis Fiscaux).

كما أن هذه الآلية تسمح بالتقليل من الحقوق الجمركية، وذلك بتخفيض أسعار الواردات مثلا، مما تعطي للشركات متعددة الجنسية الوسيلة الفعالة لتخطي عدة عقبات في سبيل تحقيق أهدافها.

ثانيا – التمويل الخارجي
بعد تحديد مفهوم التمويل الداخلي وأساليبه، نصل إلى الشطر الثاني من هذه الاستراتيجية، والمتمثل في التمويل الخارجي، والذي ينقسم إلى تمويل خارجي محلي وتمويل خارجي دولي. فالتمويل الخارجي المحلي يتمثل في الهيئات المالية الموجودة في بلد توطن الفرع، بينما التمويل الخارجي الدولي يتمثل في الهيئات المالية الدولية التي تلجأ إليها الشركات متعددة الجنسية من أجل تمويل فروعها المنتشرة في العالم.

I. التمويل الخارجي المحلي:
يعتبر التمويل الخارجي المحلي المصدر الثاني المهم بعد الأرباح لرؤوس الأموال الموظفة من طرف الفروع في الخارج، بحيث يمثل المحيط المالي الأول الذي يلجأ إليه الفرع من أجل طلب قروض، أو طرح الأسهم أو السندات. فبينما بعض الفروع الأكثر أهمية أو القديمة في البلد، وذات أسماء مشهورة تلجأ إلى القروض طويلة الأجل، وذلك لحجمها وللثقة المتكونة بعد سنوات من التعامل مع البنوك والهيئات الأخرى. إلا أن هذا المصدر لا يفتح أمام الفروع الأصغر حجما نسبيا والجديدة، ولذلك تلجأ إلى القروض قصيرة الأجل، باعتبارها غير معروفة ، حتى وإن كانت الشركة الأم مشهورة.

المطلب الرابع:إستراتيجية التسويق في الشركات متعددة الجنسية[1]- [2]
يلعب التسويق دورا مهما في الشركات متعددة الجنسية، وذلك بتوفير الشروط التي تسمح بالتوسع المستمر في الأسواق من أجل تفريغ إنتاجها المتنامي. فيحصل هذا التوسع بتحقيق زيادة في الطلب المتمثل في عدد و/أو نوعية المستهلكين. فتتحقق الإستراتيجية التجارية بالبحث الدائم عن الأسواق الجديدة للإستغلال، أو تنمية الأسواق الموجودة. غير أنها تكون أكثر صرامة من الاستراتيجيات الأخرى، باعتبارها تقدم المعرفة الدقيقة بظروف السوق، أو خصائص الطلب التي تعتبر ضرورية للإحاطة بالمنتج، وكذا اعتماد توزيع ينقل السلعة بفعالية إلى غاية المستهلك النهائي، وبالسعر الذي يسمح للمؤسسة بلوغ أهدافها المتمثلة في المردودية والنمو.

فالعمل في الأسواق الدولية يتطلب بالضرورة مواجهة طلبات ذات خصائص مختلفة نسبيا، مما يتطلب من التسويق متعدد الجنسية اعتماد أساليب متنوعة حسب ظروف كل سوق، من أجل الحصول على معلومات تسمح لهذه الشركات بالتعرف على خصوصية كل سوق مستهدف واتخاذ القرارات المناسبة التالية:

1. ماذا ستبيع؟ هل تبيع سلعا؟ أو مهارة « Savoir-faire »؟ أو خدمات؟ أو منتجا محولا؟ وبأي نوعية؟
2. لمن ستبيع؟ بمعنى: أي سوق تستهدف غزوه؟
3 كم ستبيع؟ بعبارات أخرى: ما هي درجة توغلها ونفوذها في السوق المراد استهدافه؟
4. ما هو المدى الزمني؟
5. ما هي القنوات التي تسلكها لبلوغ السوق الأجنبي؟
6. ما هي القنوات التي تسلكها الشركات داخل السوق المستهدف لبلوغ المستهلك؟
7. من يتكفل بالإشهار وترقية المبيعات؟
8. كيف تضمن خدمة المستهلك؟
9. من أين يتم تموين السوق؟ بالتصدير من البلد الأصلي أم من الفروع في البلدان الأخرى؟ أم من الإنتاج في البلد المستقبل؟
10 ما هي سياسة الأسعار التي ستتبناها؟

كما ينبغي على المؤسسة أن تحدد ما يعرف بالمزيج التسويقي (Le Marketing – MIX )والمتمثل في المتغيرات الأربعة الرئيسية وهي: المنتج، السعر، الترقية، والتوزيع. غير أن المشكلة الرئيسية، تتمثل في تحديد التغير الجذري في سلوكها في الساحة الدولية، بالنظر إلى هذه المتغيرات، وذلك باختيار التكييف أو التنميط (la standardisation). فبينما يمثل التكيف مع خصوصية كل سوق، الخاصية الأكثر تناسبا مع روح ومفهوم التسويق، يقدم التنميط الميزة المتعلقة باقتصادات التكاليف.

طبيب صالح
طبيب صالح
مدير
مدير

عدد المساهمات : 128
نقاط : 244876
تاريخ التسجيل : 25/11/2010
العمر : 36
الموقع : https://stcp.forumalgerie.net

https://stcp.forumalgerie.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الشركـات متعددة الجنسيـة Empty رد: الشركـات متعددة الجنسيـة

مُساهمة من طرف طبيب صالح الجمعة أبريل 13, 2012 11:27 pm

فاعتماد إستراتيجية لصالح تنميط المنتج يعطي:

- إمكانية لإحداث وفورات الحجم في الإنتاج؛

- مرونة أكبر لتموين نقاط البيع انطلاقا من عدة مراكز إنتاجية؛

- مرونة أكبر لخدمات ما بعد البيع ( خاصة فيما يتعلق بالمنتجات الصناعية)؛

- اقتصادات في التسويق والمتعلق بالترقية والإشهار خصوصا؛


المبحث الثالث:آثار الشركات متعددة الجنسية

تعتبر الشركات متعددة الجنسية وحدات اقتصادية ذات حجم كبير، قد تفوق مداخيلها في أحيان كثيرة دولا كثيرة[1]، مما يجعلها ذات تأثير كبير على اقتصاديات الدول، وحتى على الاقتصاد الدولي التي تمثل أحد آلياته الأساسية، وهذا ما سنتطرق إليه في المطلب الأول.

أما المطلب الثاني سنبين فيه آثار هذه الشركات على البلدان الأصلية عند خروج الاستثمارات منها. لنصل إلى توضيح آثارها على البلدان المستقبلة ( المضيفة) عند دخول الاستثمارات الأجنبية المباشرة إليها في المطلب الثالث.

ولهذا قسمنا هذا المبحث إلى ثلاثة مطالب أساسية التالية:

المطلب الأول: الشركات متعددة الجنسية والاقتصاد الدولي
المطلب الثاني: الشركات متعددة الجنسية والبلدان الأصلية
المطلب الثالث: الشركات متعددة الجنسية والبلدان المضيفة



المطلب الأول:الشركات متعددة الجنسية والاقتصاد الدولي

من المفيد الذكر هنا، أن الشركات متعددة الجنسية تعتبر إحدى القوى التي أبرزها النظام الاقتصادي الدولي الراهن، والتي نشأت وازدهرت على أرضيته. ولعله من المهم التساؤل عن مدى تأثير هذه الشركات على هذا النظام.

وذلك ما سنتطرق إليه من خلال العناصر التالية[2]:

- التقسيم الدولي للعمل
- التجارة الدولية
- النظام المالي والنقدي

أولا – أثر الشركات متعددة الجنسية على التقسيم الدولي للعمل:

في البداية، تجدر الإشارة إلى أن التخصص الدولي الذي نتج عن الموجة الاستعمارية، أدى في المناطق المستعمرة إلى ظهور آثار سلبية، حيث عمل على تحطيم الصناعة المحلية، وذلك بفتح الباب على مصراعيه أمام التجارة الخارجية. ففي فترة ما بين الحربين، تكثف الاتجاه نحو الاستثمار الأجنبي المباشر في القطاع الأولي، وإنتاج المواد الخام، بحيث قدر مخزون الاستثمار الأجنبي المباشر في البلدان المتخلفة في سنة 1914 بحوالي 8,98 مليار دولار، وفي سنة 1938 بحوالي 17,34 مليار دولار. بينما قدر في البلدان المتقدمة على التوالي بحوالي 5,32 مليار دولار و 9,05 مليار دولار.

غير أن هذه الاستثمارات الإستخراجية المباشرة كان النصيب الأوفى فيها لبلدان أمريكية اللاتينية. فقد أدى النشاط إلى تطوير الصناعة، وإحداث معدلات نمو عالية في الدول المتقدمة، بينما في الدول المتخلفة، عرف القطاع الأولي والخدمات تعاظم في معدلات النمو على حساب بقية قطاعات الاقتصاد الوطني. وبذلك تكون صادرات رؤوس الأموال من البلاد الاستعمارية وشبه الاستعمارية قد أدت إلى خلق التخصص الدولي وتكريس التقسيم الدولي للعمل. والجدول التالي يبين اتجاه الاستثمار الأجنبي المباشر إلى الانخفاض في الدول المتخلفة بعد الحرب العالمية الثانية وإلى الارتفاع في الدول المتقدمة. ليتغير هذا الميل في السنوات الأخيرة.

الجدول 1-I: تطور الاستثمار الأجنبي المباشر خلال 1914-1997 بالنسبة المؤوية

البلدان المضيفة
1914
1938
1960
1990 *
1997 *

البلدان المتقدمة
37,2
34,3
67,3
79,3
68,0

البلدان المتخلفة
62,8
65,7
32,7
20,6
30,2

المصدر: W. ANDREFF, OP. CIT, P.15

· أما إحصائيات سنتي 1990 و 1997 فقد استخرجت من المرجع التالي:

UNCTAD, « World Investment Report – 1999 », (United Nations, New York – Geneva, 1999), P.5.

وكما يتضح جليا من الجدول السابق، بدأت حصة الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الارتفاع من جديد في البلدان النامية بعد سنة 1990، ويقابلها بالتالي انخفاض في هذه الحصة في البلدان المتقدمة.

غير أن هذا التقسيم الدولي القديم للعمل، أخذ في التغير بتكوين مجموع ثالثة والتي أصبحت تعرف بالدول الصناعية الجديدة، والمتمثلة في الأرجنتين والبرازيل والمكسيك في أمريكا اللاتينية، وكوريا الجنوبية وتايوان وهنغ كنغ وسنغافورة في آسيا[3]. بحيث تستحوذ هذه المجموعة على القسم الأكبر من الاستثمارات الأجنبية في دول العالم الثالث، وذلك بتحويل جزء كبير من الصناعات كثيفة العمل ورأس المال. وذلك بأن تتخصص البلاد المتقدمة في الصناعات كثيفة التكنولوجيا ورفيعة المهارة مثل الصناعات الإلكترونية والفضائية وأجهزة معالجة المعلومات …إلخ، والمسمات أيضا بالصناعات العلمية لاستخدامها المكثف للمعرفة والعلم كمكونات أساسية، وبلدان مصنعة جديدة تتخصص في الصناعات ذات درجة عالية من التنميط، والبلدان الأخرى تتخصص في الصناعات الاستخراجية والمواد الأولية.

ولعله من المفيد إعطاء نموذج لعملية تقسيم العمل في المجموعة الثانية ولتكن مجموعة بلدان جنوب شرق آسيا مثالا لها.

الجدول 2-I: تقسيم العمل في منطقة جنوب شرق آسيا

منطقة الإنتاج
العشرية
ماليزيا – إندونيسيا
تايلاندا - الفلبين
كوريا الجنوبية- تايوان
سنغافورة – هنغ كنغ
اليابان1990
- الإلكترونيك
- الإلكترونيك
- السيارات
- الصناعات البيولوجية
- الإعلام الآلي

المزيد
ف1-مب3-مط2:الشركات متعددة الجنسية والبلدان الأصلية

ديسمبر 18th, 2010 كتبها عبد القــادر زيــان نشر في , رسالتي للماجستير,

المطلب الثاني:الشركات متعددة الجنسية والبلدان الأصلية

كما سبق ذكره، تعتبر الشركات متعددة الجنسية المحقق الرئيسي للاستثمار الأجنبي المباشر في العالم، والمتمثل في الحركات الدولية لرأس المال من وإلى البلد الأصلي ( الأم). غير أن هذه الحركات، تؤثر على التجارة الخارجية للبلد الأصلي، باعتبار أن الاستثمار في الخارج يعتبر عملية إحلال للصادرات في البلد الأصلي، وبالتالي له تأثير مباشر على ميزان المدفوعات، كما يحدث أثرا على التشغيل.

أولا – أثر الشركات متعددة الجنسية على ميزان المدفوعات في البلدان الأصلية

في البداية، يجب التأكيد على أن ميزان المدفوعات يعتبر وسيلة محاسبية تسمح بقياس كل المبادلات بين مقيمي البلد وغيرهم في بلدان أخرى خلال فترة زمنية ( عادة ما تكون سنة). كما يمكن أن يكون المقيم من جنسية مختلفة عن البلد الذي ينشط فيه[1].

فينقسم ميزان المدفوعات إلى جزأين وهما:

- الميزان التجاري، والذي يعطي تفصيلات عن الواردات والصادرات السلعية والخدماتية وأرصدتها.

- ميزان المدفوعات المالية، والذي يوضح الرصيد وتفصيل مبادلات الشركات والبنوك والدولة مع الخارج.فهذا الجزء يسمح بمعرفة المبالغ السنوية لاستثمارات البلد الأصلي في الخارج والاستثمارات الأجنبية في البلد الأصلي.

إذن، تتعلق المبادلات التجارية بالمبادلات السلعية المادية والخدمات، أما المعاملات المالية فتتعلق بتبادل السندات وعقود الملكية. فكل تصدير، يحسن في ميزان المدفوعات، باعتباره يؤدي إلى إدخال عملات صعبة. وكل استيراد يؤدي إلى إضعاف ميزان المدفوعات، باعتباره يقود إلى خروج عملات صعبة. نفس الأمر بالنسبة للاستثمار المباشر، حيث يؤدي هذا الاستثمار في الخارج إلى تدهور في ميزان العمليات المالية في البلد الأصلي، بينما الاستثمارات الأجنبية نحو البلد تحسن في ميزان المدفوعات.

فحسب عدة دراسات أنجزت في هذا الباب، تؤدي استثمارات الشركات متعددة الجنسية إلى إحداث آثار مزدوجة على ميزان مدفوعات البلد الأصلي، مما يحدد درجة تأييد ومعارضة بلدانها الأصلية على التوسع في الخارج.

ففي المدى القصير مثلا، تكون الآثار سلبية على ميزان المدفوعات، باعتبار أن هذه العملية تشكل خروجا مكثفا لرؤوس الأموال، وكذا التوقف عن التصدير، وهذا ما يحدث عجزا نسبيا في ميزان المدفوعات. أما في المدى الطويل ينعكس الحال، فتبدأ النتائج الإيجابية في الظهور على ميزان المدفوعات، نتيجة لتحويلات الأرباح وهبات التكنولوجيا نحو الشركة الأم، وكذا توفير المواد الأولية والسلع الوسيطة بأسعار مدعمة، مما يخفض من قيمة الواردات، كما يؤدي إلى رفع الصادرات بتوريد بعض المكونات التي تدخل في إنتاج الفروع[2].

بينما يحدث الخروج المكثف لعدة شركات، من البلد الأصلي في فترات متقاربة، عجزا كبيرا في ميزان المدفوعات في المدى القصير، مما يؤدي إلى إحداث اختلال كبير في الاقتصاد الوطني، وهذا ما يدفع بالبلدان المتقدمة إلى تشجيع الاستثمار المباشر في الاتجاهين، من وإلى البلد الأصلي. بحيث توفر حكومات البلدان الأصلي عدة خدمات للشركات الراغبة في الاستثمار، وذلك بتوفير المعلومات الضرورية، وتسهيل الاتصالات المطلوبة، ليس فقط بواسطة مصالح مختصة في البلد الأصلي، وإنما أيضا بمساعدة الدبلوماسيين الموجودين في البلدان المضيفة.

كما قد يتجاوز الدعم في بعض الأحيان هذا الشكل إلى ترقية الاستثمار في الخارج، بتقديم تحفيزات كتشجيع البنوك للاقتراض للخارج، وكذا تقديم برامج تهدف إلى تأمين المستثمرين من الأخطار، كعدم تحويل العملة والتأميمات والحروب مثلا.
كما يمكن أن تصل إلى حد التمويل

المطلب الثالث:الشركات متعددة الجنسية والبلدان المضيفة

لا شك أن الآثار تظهر أكثر وضوحا في الاقتصاديات الوطنية المستقبلة، منها في الأصلية، وذلك لتوطن الاستثمار الأجنبي المباشر فيها، مما ينجر عنه من آثار مباشرة على الاقتصاد الوطني، سواء كان على الصعيد الداخلي أو الخارجي. غير أنه من المهم أن نذكر أنه، مهما كانت هذه الآثار سلبية أو إيجابية على البلاد المضيفة، فإن هذا الاستثمار لم يحصل إلا بعد قبول السلطات المحلية به، وفي أحيان كثيرة بعد طلب وإلحاح من هذه الأخيرة. ومن المناسب تقسيم هذه البلدان إلى قسمين وهما: بلدان متقدمة وبلدان نامية ( العالم الثالث).

فكما رأينا سابقا، يؤدي خروج رؤوس الأموال من البلاد إلى إحداث عجز في ميزان المدفوعات في المدى القصير، وهذا ما دفع بالبلدان الأصلية إلى تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر لتصبح بدورها بلدانا مستقبلة، مما أوجد ( كما اصطلح على تسميته) استثمارا متقاطعا، ومنه وجود بلدان مستقبلة / أصلية وبلدان مستقبلة.

فأما الأولى، فتتمثل في البلدان المتقدمة التي تحصل على الأغلبية الكبيرة من رؤوس الأموال الأجنبية بحوالي % 71,5 في سنة 1998[1]، كما تمثل هذه البلدان المصدر الرئيسي لرؤوس الأموال والتي بلغت في نفس السنة حوالي % 91,6، مما يدفع إلى اعتبار الاستثمار الأجنبي المباشر حركة تحويل رؤوس الأموال بين البلدان المتقدمة أساسا.

أما الثانية فتتمثل في البلدان النامية، والتي تعتبر بلدانا مستقبلة بالدرجة الأولى، حيث تمثل حصتها من الاستثمار الأجنبي المباشر بحوالي ربع رؤوس الأموال الأجنبية المتراكمة.

فهذه الحركة لرؤوس الأموال بين الدول تؤثر على الاقتصاديات المستقبلة في هياكلها الإنتاجية، وتحويل التكنولوجيا، وميزان المدفوعات، والتشغيل مثلا.

أولا – أثر الشركات متعددة الجنسية على الهياكل الإنتاجية

تبحث البلدان المستقبلة عند جلب الشركات متعدد الجنسية عن الرفع في الناتج الداخلي، وتسريع معدل النمو، والرفع من القدرة الإنتاجية. غير أن حدوث ذلك على إطلاقه لن يحصل إلا عند إقامة وحدة إنتاجية جديدة، بينما في الواقع تفضل هذه الشركات الحصول على شركات محلية موجودة، بحيث تمثل عملية إعادة الشراء الوسيلة الأكثر فعالية للقضاء على المنافسين، وتجنب إحداث قدرات إنتاجية زائدة. فبعد تحقيق التوطن تتم عملية تحسين التقنيات الإنتاجية والمنتجات المعروفة والقدرات التسييرية والتسويقية، … إلخ.

فهذه الوضعية تفسرها مثلا حالة المكسيك والبرازيل، فقد كانت ثلثي الشركات المقامة نتيجة لإعادة شراء مؤسسات محلية، فقد سمحت لها بالتحكم في السوق المحلي[2].

والملاحظ من عمل الشركات متعددة الجنسية في البلدان المستقبلة أن البلدان النامية، تكون أكثر تأثيرا من البلدان المتقدمة، بحيث يمثل الرأسمال الأجنبي في الناتج الداخلي الخام في أمريكا اللاتينية حوالي % 13,6 بينما في الولايات المتحدة لا يمثل سوى % 4,7. ورغم صغر حجم السوق في البلاد النامية، إلا أنها تملك ميزات تسمح لها بتقليص تكاليف الإنتاج، من يد عاملة رخيصة ومواد أولية غزيرة وقليلة الكلفة، وأسعار منخفضة للأراضي، وتكاليف اجتماعية منخفضة وقوانين حول المحيط واعدة.

فتعتبر القطاعات الإستراتيجية كالصناعة المانوفاكتورية والمنجمية تحت التحكم الخارجي وخاضعة للقرارات والمصالح الأجنبية.

ثانيا – أثر الشركات متعددة الجنسية على تحويل التكنولوجيا

يتمثل التحويل التكنولوجي في عملية بيع الشركات متعددة الجنسية للتقنية ووسائل الاستخدام. فإذا كان البيع لفرع الشركة فيعتبر تحويلا داخليا، أما إذا حصل مع شركة أخرى، فيمثل تحويلا خارجيا.

في الماضي، كانت التحويلات التكنولوجية الصادرة عن الشركات متعددة الجنسية، تعتبر عنصرا استدراكيا اقتصاديا للبلدان المستقبلة من البلدان الأصلية، بحيث توسعت الشركات الأمريكية في الخارج بعد الحرب العالمية الثانية، ليس بتصدير رؤوس الاموال فقط، وإنما أيضا بإرسال قدرات تسييرية وتكنولوجية[3]. وهذا ما سمح للبلدان المستقبلة بتنمية تكنولوجياتها، واللحاق تدريجيا بالولايات المتحدة، والمتمثلة أساسا في البلدان الغربية واليابان. غير أن تحقيق التنمية في البلدان المصنعة، يعود إلى توفر شروط نجاح هذا التحويل.

أما التحويل التكنولوجي من الشركات متعددة الجنسية إلى البلدان النامية، فله مميزاته الخاصة، حيث عرفت هذه الأخيرة تناقضا بين فكرتين أساسيتين. فالأولى، تدور حول ضرورة تكييف التكنولوجيا مع المحيط الاجتماعي والثقافي للبلاد باستعمال أكثر كثافة للعمل، أما الثانية، فقد عمدت إلى اكتساب التكنولوجيات الأكثر عصرنة.

في الأخير، مهما كانت نوعية التكنولوجيا المحولة، لا شك في اعتبار هذه الشركات الوسيلة الأساسية لتحويلها مهما كانت الطريقة.

ثالثا – أثر الشركات متعددة الجنسية على ميزان المدفوعات

لا شك أن البلدان المستقبلة، تنتظر تحسنا في ميزان مدفوعاتها من خلال عمل الشركات متعددة الجنسية فيها.

I. الأثر على مبادلات البضائع:

على العموم، تحسن هذه الشركات من الميزان التجاري في البلاد المستقبلة، حيث يؤثر الاستثمار المباشر على حركة السلع من وإلى الخارج. غير أنه لا ينبغي التوقف عند تحليل الميزان التجاري في حركة الواردات والصادرات فقط، وإنما كذلك على إحلال الواردات والصادرات.

فحسب موسوعة الاقتصاد والتسيير[4]، حققت الشركات الأجنبية في فرنسا حوالي % 20 من الواردات و% 10 من الصادرات، وبالتالي أحدثت عجزا في التجارة الدولية، أما عند إدخال متغيرات إحلال الصادرات والواردات، تظهر الآثار الإيجابية على ميزان المدفوعات للبلد المستقبل. كما أن في أمريكا اللاتينية، وخلال الفترة 1965-1968، استثمرت الشركات الأمريكية حوالي 700 مليون دولار، بينما أجلت فروعها حوالي

الفصل الثاني:التشغيل في دول العالم الثالث

مقدمة الفصل الثاني:

إن للشركات متعددة الجنسية آثر متعددة على البلدان المضيفة والأصلية، وبالخصوص على ظاهرة التشغيل. وباعتبار أن هذه الظاهرة مرتبطة بدرجة تنمية هذه البلدان، فإن التأثير على التشغيل، يختلف بين البلدان المتقدمة المصنعة وبلدان العالم الثالث، وذلك راجع لخصوصيته في البلدان الأخير. مما استوجب تخصيص هذا الفصل لدراسة تفصيلية للتشغيل في دول العالم الثالث، باعتباره أحد المؤثرات والمتأثرات بنشاط هذه الشركات مباشرة وغير مباشرة.

من هنا جاءت أهمية دراسة مشكلة التشغيل في دول العالم الثالث، وذلك بدءا بحصر بعض المفاهيم المرتبطة بهذه المشكلة، والتي خصصنا لها المبحث الأول. أما في المبحث الثاني، سنعمد إلى تفصيل ظاهرة التشغيل في دول العالم الثالث. لنخصص في الأخير المبحث الثالث، لإبراز السياسات التي انتهجتها هذه البلدان من أجل التخفيف من حدة هذه المشكلة.

ولهذا قسمنا هذا الفصل إلى ثلاثة مباحث رئيسية وهي:

المبحث الأول: مفاهيم عامة

المبحث الثاني: مشكلة التشغيل في دول العالم الثالث

المبحث الثالث: سياسات التشغيل في دول العالم الثالث



المبحــث الأول:مفاهيـــم عامـــــة

إن حصر ظاهرة التشغيل في دول العالم الثالث، وفهمها بخصوصياتها المختلفة عن الدول المتقدمة، يستوجب تقديم تعريف دقيق لهذه الدول مع بيان خصائصها المشتركة، وكذا الاختلافات الموجودة فيها، والتي سنخصص لها المطلب الأول. أما المطلب الثاني نخصصه لعامل مهم من عوامل الاختلاف، والمتمثل في الاستراتيجيات التنموية التي اعتمدتها هذه الدول، والتي تشكل المفسر الأساسي لوضعية التشغيل المتميز في هذه البلدان. بينما سنتطرق في المطلب الثالث إلى الجوانب النظرية المعقدة لظاهرة التشغيل، ممهدين بذلك للانتقال إلى المبحثين اللاحقين.

وبالتالي تم تقسيم هذا المبحث إلى المطالب الثلاث التالية:

المطلب الأول: العالم الثالث

المطلب الثاني: الإستراتيجية التنموية

المطلب الثالث: التشغيل


المطلـب الأول:العالـــم الثالــــث

إن أول ظهور لعبارة العالم "العالم الثالث" كانت على يد الديموغرافي الفرنسي SAUVY، حيث كتب مقالا في جريدة « L’Observateur » بتاريخ 14 أوت 1952، تحت عنوان"ثلاثة عوالم، كوكب" «(Trois Mondes, Planète)، من جملة ما قاله: "…إن هذا العالم الثالث المتجاهل والمستغل، والمحتقر، هو بمثابة دولة ثالثة (Tiers Etat ) يريد بدوره أن يكون شيئا"[1].

فقد ظهرت هذه العبارة في ظرف اتسم ببروز حرب باردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي. فأشار SAUVY إلى أن هذا العالم الثالث، المستعمر والمتخلف في كل المجالات، يمثل كتلة قائمة بذاتها، ومتميزة عن الكتلتين السابقتين جغرافيا وإنسانيا وتاريخيا. كما أن هذا العالم يطمح إلى الدخول في هذه الحرب.

إذن، تعتبر كلمة العالم الثالث ذات بعد سياسي، توصف به مجموعة من البلدان "المتخلفة"، كما سمتها الأمم المتحدة في أول الأمر، قبل أن تحول إلى عبارة "البلدان السائرة في طريق النمو" ( Pays en Voie de Développement) أو "البلدان النامية" ( Pays en Développement). فهذه المجموعة تمثل أربعة أخماس العالم، والمنتشرة في كل من إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا[2].

في البداية سنتعامل مع العالم الثالث باعتباره كتلة واحدة متجانسة، وذلك بالتطرق إلى الخصائص المشتركة لبلدانه. لنتطرق بعد ذلك إلى الاختلافات الداخلية فيه.

أولا- الخصائص المشتركة

تعتبر الخصائص المشتركة للعالم الثالث هي نفسها خصائص التخلف، باعتباره الوجه الآخر المميز له عن غيره. غير أن هذه المعايير في حد ذاتها، ليست متجانسة في جميع البلدان، بحيث توجد فوارق كبيرة ومتنوعة بين بلدانه ومجموعاته الجهوية. ولهذا سنقتصر على أهم الخصائص، والمتمثلة في الفقر، والنمو السريع للسكان، والتمدين (Urbanisation)، وأهمية الفلاحة في الاقتصاد.

I. الفقر:

يعد الفقر أول مقياس للانتماء لدول العالم الثالث، بحيث يعيش في هذه المجموعة أكثر من مليار شخص تحت عتبة الفقر المدقع، والتي يحددها البنك العالمي بأقل من واحد دولار في اليوم. كما أن هذه البلدان تمثل %80 من سكان المعمورة، إلا أنها لا تحقق سوى %18 من الناتج الداخلي الخام (PIB) العالمي، في حين تحقق البلدان المتقدمة أكثر من %72 منه[3].

بالإضافة إلى ذلك، تقترب أغنى دول العالم الثالث (باستثناء الدول المصدرة للنفط ذات الدخل العالي) من البلدان المعتبرة فقيرة في أوروبا كالبرتغال و اليونان.

فبالرغم من وجود بعض الاستثناءات في العالم الثالث بالنسبة لهذا المعيار، يبقى في عمومه في القسم السفلي لسلم الناتج الداخلي الخام للفرد، لكن هذا لا يمنع من وجود نسبة كبيرة من الفقر في الدول ذات الناتج الداخلي الخام المرتفع نسبيا، وذلك راجع للتوزيع غير العادل للدخل.

على كل حال، لم يسلم هذا المعيار من النقد، مما دفع بالعديد من المنظمات الدولية إلى عدم الاقتصار عليه لحصر ظاهرة الفقر، وإنما تعدته إلى اعتماد مؤشرات أخرى إضافية، كسوء التغذية، والمستوى الصحي، والأمل في الحياة عند الولادة، ومعدل الوفيات عند الأطفال، ومعدل التمدرس، ومعدل التعليم عند الكبار، وتوفير المياه الصالحة للشرب،…الخ[4].

II. النمو المرتفع للسكان:

يعتبر النمو المرتفع للسكان الخاصية الثانية المهمة في دول العالم الثالث، بحيث نما عدد السكان بوتيرة تقدر بحوالي %2 في سنة 1950، و %2,6 في سنة 1970 [5]. غير أن هذا النمو المفرط، يعرف تباطؤا منذ منتصف السبعينات، باستثناء إفريقيا التي ما تزال تشهد معدلات نمو متزايدة للسكان. فتعرف هذه الأخيرة نموا سنويا يقدر بحوالي %2,7 في الفترة 1990-1995، بينما تعرف أمريكا اللاتينية معدلا يقدر بحوالي %1,7 وآسيا حوالي %1,5 [6].

فهذا النمو المرتفع، ينعكس على معدل نمو فئة الشباب الأقل من 15 سنة في سنة 1995، والذي يقدر بالنسبة لإفريقيا بحوالي %44 من مجموع السكان، بينما أصغر نسبة في دول العالم الثالث تمثلها آسيا بحوالي %32، وتليها أمريكا اللاتينية بحوالي %34.

وتجدر الإشارة هنا، أن هذا الارتفاع في عدد السكان، والذي اصطلح عليه بالانفجار الديموغرافي، يمثل نتيجة حتمية لظاهرتي انخفاض الوفيات وارتفاع المواليد، وذلك راجع للتحسن الملحوظ في شروط النظافة والصحة، حيث انخفض معدل الوفيات العام من %2 في الستينات إلى %1,4 في الثمانينات[7]. بينما توجد النسبة الأكثر ارتفاعا في إفريقيا والمقدرة في سنة 1995 بحوالي %1,4، بينما عرفت أمريكا اللاتينية حوالي %0,7، أما بالنسبة لآسيا فقد قدرت بحوالي %0.8 [8].

وبعبارة أخرى، عرف معدل وفيات الأطفال في الدول النامية تراجعا ملحوظا، بحيث انخفض هذا المعدل بين عامي 1970 و 1997، من حوالي %11,1 إلى %6,4 [9]. كما أن أقل نسبة سجلت في سنة 1995 تمثلت في أمريكا اللاتينية والمقدرة بحوالي %3,3، وتليها آسيا بحوالي %5,7، ثم إفريقيا بحوالي %8,5 [10]. وفي مقابل هذا الانخفاض في معدل الوفيات، عرف الأمل في الحياة عند الولادة ارتفاعا بين عامي 1970 و 1997 من 54,5 سنة إلى 64,4 سنة، فقدر بالنسبة لأمريكا اللاتينية بحوالي 69,5 سنة، وآسيا بحوالي 66,2 سنة وبالنسبة لإفريقيا قدر بحوالي 54,2 سنة[11].

ومما لا شك فيه أن هذا الانفجار السكاني يعتبر اليوم سببا رئيسيا للحرمان، لكنه ليس الأول، باعتباره يمثل أحد نتائجه، والذي رغم محاولة تجاهله لفترة طويلة، انتهي المطاف بالولايات المتحدة الأمريكية إلى الاعتراف به في الندوة حول سكان العالم، والتي انعقدت في مكسيكو في أوت 1984 [12].

إن المعدل المرتفع للسكان في دول العالم الثالث يعتبره أغلب الاقتصاديين عائقا، وحتى كابحا في أحيان كثيرة لجهود التنمية فيها، وذلك راجع إلى وجود نسبة عالية من الشباب لم يبلغوا سن النشاط.

III. التمدن [13]: (Urbanisation)

إن النمو الحضري له سببين هما: الهجرات نحو المدن والنمو الطبيعي للسكان الحضريين. لكن على الرغم من ارتفاع المعدلات الداخلية للمدن، والتي تساهم كثيرا في نموها، إلا أن الهجرات من الأرياف نحو المدن، تلعب دورا أكثر أهمية في العالم الثالث منه في البلدان المتقدمة. كما أن معدل التمدين يختلف كثيرا بين المناطق المتقدمة والمناطق النامية، وحتى داخل هذه الأخيرة. ففي سنة 1997، بينما كان يمثل السكان الذين يعيشون في المناطق الحضرية بالبلدان المتقدمة حوالي %77,8، لم يصل هذا المعدل بالنسبة لبلدان العالم الثالث سوى %38,4 [14].

غير أن هذا المعدل يخفي اختلافا كبيرا داخل هذه البلدان الأخيرة، بحيث يقرب معدل التمدين في أمريكا اللاتينية ما هو عليه في البلدان المتقدمة، والذي يصل إلى %74,2 في سنة 1997. أما بالنسبة لآسيا فيصل إلى %36,0 و%37,0 بالنسبة لإفريقيا.

أما الوجه الآخر لهذا المعدل الضعيف لإجمالي عدد السكان، فيتمثل في المعدل المرتفع في نمو السكان الحضريين، مقارنة مع معدل نمو السكان الريفيين والإجماليين، بحيث يقدر معدل النمو الحضري بحوالي %3,4 في الفترة 1990-1995، بينما يعرف معدل النمو الريفي حوالي %0,9 في نفس الفترة[15].

ذلك ناتج عن حركات السكان بين الريف والمدن والتجمعات الحضرية الكبرى، نظرا للكثافة السكانية المرتفعة في الأرياف، ونقص الأراضي الخصبة. كما أن التنمية الاقتصادية أعاقت الوسائل المعيشية لأصحاب الحرف الريفيين، وذلك بتسهيل الحصول على المواد المنتجة في المؤسسات الصناعية الكبيرة الحضرية. أما السبب الرئيسي فيرجع إلى الانجذاب نحو العيش في المدينة، وأيضا لتركيز الاستثمارات الإنتاجية العمومية والخاصة في عدد محدود نسبيا من المراكز الحضرية، مما أدى إلى هجرات سريعة نحو أغلبية المدن في العالم الثالث، على الأقل خلال فترات معينة من نموها الديمغرافي.

المطلـــب الثانــــي:الاستراتيجيـــة التنمويــة

كما سبق ذكره، تمثل الاختلافات داخل العالم الثالث العامل المشترك بين بلدانه، كما أن الاختلافات السابقة لا تقتصر على ما قد ذكرناه من قبل وإنما تتعداها إلى الاستراتيجيات التنموية المختلفة التي تبنتها هذه البلدان. وذلك راجع للتفاوت في درجات توفر الموارد في كل بلد. كما أن بعض البلدان لم تتبن استراتيجية تنموية واحدة، بل تعدتها إلى إحداث تغييرات كلما سنحت الفرصة إلى ذلك.

وبالتالي يمكن التمييز بين استراتيجيتين مختلفتين بالاعتماد على اتجاه السوق، فهناك استراتيجيات متجهة نحو السوق الداخلي وأخرى نحو السوق الخارجي[1].

أولا: الاستراتيجيات المتجهة نحو السوق الداخلي:

نميز ضمن هذا الصنف من الاستراتيجيات بين مجموعتين مختلفتين وهما: الأولى، تعطي الأولوية للقطاع الأمامي والتي اعتمدت على تطبيق النموذج السوفياتي، القائم على إعطاء الأولوية لصناعة السلع التصنيعية ( الصناعات الثقيلة) مثل الجزائر والهند. أما الثانية، فتعطي الأولوية للقطاع الخلفي، والتي تركز على صناعة السلع الاستهلاكية، بحيث اتبعت تصنيعا خاصا بإحلال الواردات، مثل البرازيل والمكسيك.

I / إستراتيجية الصناعات المصنعة:

تعتمد هذه الإستراتيجية على النموذج السوفياتي، كما سبق ذكره، والمؤسس على:

- التخطيط الآمر؛

- الأولوية للصناعة الثقيلة؛

- الحماية تجاه الخارج؛

- تحويل موارد الفلاحة نحو الصناعة الرائدة.

نظرا لضخامة الوسائل الضرورية لإنشاء صناعة ثقيلة، تعتبر هذه الإستراتيجية خاصة ببلدان ذات إمكانيات كبيرة، سواء بحجمها الكبير كالهند، أو بمواردها المالية الهامة كالجزائر مثلا.

ففي المرحلة الأولى الانتقالية، كان من الضروري أن تلعب الفلاحة دور الممون الرئيسي باليد العاملة والمواد الغذائية، وبالإضافي إلى أن مكننة القطاع الفلاحي توفر منافذ ضرورية للصناعة، فهذه الأخيرة تمد الفلاحة بالسلع التجهيزية والخدمات الأساسية لتطويرها كالطاقة الكهربائية، والسقي، والمنتجات الكيميائية كالأسمدة[2].

وفي مرحلة ثانية، بفضل آثار الاجتذاب المنتظرة، يوجه الاستثمار نحو الصناعات التحويلية الموجهة نحو الاستهلاك. ومنه يلاحظ أن العملية معاكسة لإستراتيجية إحلال الواردات. غير أن تطبيق هذه الإستراتيجية من طرف بلدان مختلفة أدت إلى نتائج سلبية[3].

فبالنسبة للجزائر، تعتبر الصناعات التي أقامتها ذات حجم كبير جدا، مما أدى إلى تشغيلها بأقل من 50% من طاقتها الإنتاجية، وبفعل الاقتطاعات من مداخيل الأعوان الاقتصاديين من أجل تمويل هذه الصناعات الثقيلة، أدت إلى خنق المنافذ الداخلية. أما فيما يخص البحث عن الاستقلالية الاقتصادية، فالقضية خاسرة مسبقا باعتبار أن التجهيزات مشتراة بالكامل من الخارج، ومنه تتفاقم وضعية التبعية.

وهكذا، نجحت الجزائر في تصنيع منتجات جزائرية بالكامل، غير أنها غير قادرة على بيعها في الأسواق العالمية. وكما هو الحال بالنسبة للنموذج السوفياتي، يعتبر قطاع الفلاحة والسكن الضحيتين الكبيرتين لهذا النموذج. وفي الأخير، نظرا للتبعية الكبيرة للصادرات من المحروقات وكذا تراجع أسعارها، أدى إلى حدوث صعوبة في تسديد المديونية الخارجية المتراكمة نتيجة اعتماد مثل هذه الإستراتيجية المكلفة بالعملة الصعبة والمكلفة اجتماعيا أيضا.

أما بالنسبة للهند، فقد تحصلت هذه الأخيرة من الاتحاد السوفياتي في الخمسينات على تجهيزات وتقنيات الإنتاج، لتحاول بعد ذلك امتلاك تكنولوجياتها الخاصة. غير أن النتيجة الأساسية لهذه السياسة تعتبر أقل ضررا من نظيرتها الجزائرية، بحيث كان النمو بطيئا ولكن منتظما، وذلك لوجود سوق داخلي الضخم. كما أن مساوئ الانغلاق عن السوق الخارجية كانت أقل حدة.

II / إستراتيجية صناعة السلع الاستهلاكية:

ابتداء من سنوات 1930، واتبعت دول أمريكا اللاتينية استراتيجية كفيلة بتشجيع إنشاء صناعات محلية تنتج سلعا موجهة إلى تعويض السلع المستوردة، والتي اصطلح على تسميتها بإستراتيجية " إحلال الواردات".

أما السياسات المقترحة من طرفها فتتمثل فيما يلي [4]:

1. توسيع السوق الداخلي، وذلك بإعادة توزيع الدخل وإصلاح زراعي؛

2. إنشاء أسواق جهوية، خاصة ما بين الاقتصاديات ذات الحجم الصغير؛

3. إقامة نظام حمائي بالحصص والحقوق الجمركية، ومعدلات الصرف المتعددة، المتعلق بالواردات حسب أولوية التصنيع؛

4. إخضاع الحصص المالية القادمة من الخارج للرقابة (انفتاح انتقائي على الاستثمار الأجنبي، وكذا الاعتماد على إجراءات الحد من خروج الأرباح)؛

5. دعم تمويل الاستثمار باتباع سياسة ميزانية نشطة.

أما الافتراض الأولي لهذه الإستراتيجية، فيتمثل في وجود طلب احتمالي كافي للصناعة الأمامية ليتبعها العرض لاحقا، وذلك باستبدال الإنتاج الوطني للواردات مما يحقق هدف صعود الفروع الخلفية نحو الأمامية.

والجدير بالذكر، أن هذه الإستراتيجية سمحت لعدد من البلدان في العالم الثالث من تطوير صناعاتهم بنجاح. بحيث سمعت لعدة بلدان في أمريكا اللاتينية بتنمية صناعاتهم

غير أنه في المقابل، عرفت هذه التجربة آثارا سلبية عديدة. ويعتبر البرازيل البلد الذي احتوى على كل المظاهر السلبية لتجربة أمريكا اللاتينية والمتمثلة فيما يلي:

- مديونية ضخمة؛

- نفقات عمومية كبيرة جدا بالمقارنة مع ضعف المداخيل الجبائية؛

- نظام اقتصادي مغلق يحمي صناعة محلية غير فعالة.

ثانيا – الاستراتيجيات المتجهة نحو السوق الخارجية:

ومفاد هذه الاستراتيجيات، يتمثل في تصدير المنتجات في السوق الخارجي وتحقيق في مقابل ذلك مداخيل بالعملة الصعبة، من أجل تحريك عجلة التنمية. غير أن هذه المنتجات تختلف بين منتجات مصنعة وأخرى غير مصنعة. وبالتالي هناك نوعين من الاستراتيجيات، يتمثلان فيما يلي: إستراتيجية تصدير المنتجات غير الصنعة وإستراتيجية تصدير المنتجات المصنعة.


المطلـب الثالـث:التشغيـــــــــــل

يعتبر التشغيل حجر الزاوية في السياسة الاقتصادية والاجتماعية للدولة، وذلك راجع لاعتباره مشكلا في حد ذاته. ومن أجل الإحاطة به ومحاولة حصره، نبدأ بالتطرق إلى مفهوم سوق الشغل والآليات التي تحكمه.

أولا- سوق الشغل

رغم ما عرفته عبارة سوق الشغل(سوق العمل) من انتقادات شديدة، لاعتبار العمل كأي سلعة تباع وتشترى، يبقى من المفيد التطرق إلى المبادئ التي تحكم أصحاب هذا الاتجاه الأخير، والذين يعتبرونه، ذلك المكان الذي يتقابل فيه العرض مع الطلب على العمل.

فيشمل عرض العمل كل العمال المستعيدين لبيع قوة عملهم لمستخدم مستعد لشرائها. وككل سلعة، يكون العمل المعروض والمطلوب في السوق محل سعر، والمتمثل في الأجر[1]. فبواسطة السعر، يحقق السوق الحجم الحقيقي للعرض والطلب. فكلما ارتفع الأجر، كلما زاد مسيرو المؤسسات المستعدون لتشغيل أفراد آخرين.

إذن، بواسطة هذه الآلية، يحصل توازن بين العرض والطلب في سعر معين، وفي لحظة معينة: فيعتبر هذا الأجر أجرا توازنيا. كما يفترض هذا النموذج، وجود سوق تنافسية، لا يستطيع المستخدمون التأثير فرديا على الأجر وعلى حركية العمال، حيث يبحثون باستمرار على يد عاملة أرخص. كما يبحث كل عامل على أعلى أجر، بحيث يون مستعدا لمغادرة منصب عمله إذا عرض عليه أجر أعلى في مكان آخر.

غير أن محاولة اعتبار سوق الشغل كأي سوق للسلع، أهملت تأثيرات ودور الهيئات والمؤسسات المنظمة للسوق، مما دفع بأصحاب النظرية المؤسساتية إلى اعتبار الهيئات والسلوكات المنظمة محددة في سوق الشغل[2].

فرغم ما سبق ذكره، من المفيد الاحتفاظ بعبارة سوق الشغل من أجل إظهار الإطار الذي يتقابل فيه العرض والطلب على العمل[3].

I. مفهوم سوق الشغل:

باعتباره سوقا للشغل، فإنه يتقابل فيه العرض والطلب لليد العاملة أو العمل، فإنه يتمثل في الأفراد الطالبين للشغل. بينما طلب اليد العاملة أو الطلب على العمل فيتمثل في عرض الشغل الصادر عن شخصية طبيعية أو معنوية. فرغم كثرة ترديد هذه العبارة، إلا أنها تخفي مشاكل عديدة في تعريفها. حيث أن هذا السوق لا يعتبر منسجما، وذلك لانقسامه إلى عدد كبير من الأسواق الجزئية أو الثانوية. كما يتم تصنيف هذه الأسواق حسب الجنس والوظائف، ودرجة التخصص والسن، وحسب المناطق الجغرافية.

ومن البديهي أن يكون هذا السوق في حالة توازن أو في حالة اختلال في مرحلة معينة. فتوازن سوق الشغل نادر الوقوع في الزمان والمكان، والذي اصطلح عليه بالتشغيل الكامل.

أما حالة الاختلال، فتكون إما كمية و/أو نوعية، والتي قد تحصل في السوق الإجمالي، غير أن في غالب الأحيان يكون الاختلال في بعض أسواقه الجزئية المكونة له[4].

II. عوامل اختلال العرض والطلب على اليد العاملة[5]:

إن عوامل اختلال التشغيل عديدة ومتنوعة، غير أنه يمكن توزيعها على فئتين كبيرتين وهما: حسب التغيرات في النشاط الاقتصادي، وحسب تطور الهياكل.

1. التغيرات في النشاط الاقتصادي:

لا شك أن كل اقتصاد يعرف في تطوره فترات مختلف من النمو، كما قد يمر بأزمة في بعض الأوقات، كالكساد مثلا. بالإضافة إلى وجود فروع اقتصادية تخضع نشاطاتها إلى تغير في الوتيرة حسب المواسم. فتربط بهذه الفئة مشاكل التشغيل التي تطرحها التقلبات الظرفية على مستوى الإنتاج.

2. تطور الهياكل:

أما هذه الفئة الثانية من مشاكل التشغيل فتكون دائمة، وذلك راجع لحدوث تغير في المنظومة الاقتصادية ذاتها. حيث يحدث تطور في الهياكل نتيجة للتغييرات المرتبطة بالتطور التكنولوجي. كما يحدث تغير في الهياكل بفعل القوى الاقتصادية وكذا بالاعتماد على عوامل مؤسساتية، بالإضافة إلى التطور الديموغرافي.

ثانيا- مشكلة التشغيل

تعتبر مشكلة التشغيل الوجه الآخر لوضعية الاختلال الحاصل في سوق الشغل، لما ينتج عنه من ظواهر سلبية كالتشغيل الناقص والبطالة، تحت أشكال مختلفة بالنسبة للعمال، أما بالنسبة لأرباب العمل فيتمثل في ندرة اليد العاملة. لكن قبل التطرق إلى هذه المفاهيم يجب التعرف على مفهومين أساسين وهما السكان النشطين والتشغيل.

I. السكان النشطين والتشغيل

1. السكان النشطين:

يمثل السكان النشطين عرض العمل الصادر عن كل من هم محتاجين للعمل. وبالتالي، يعتبرون أكثر عددا من المشغلين فعليا. ومنه ينبثق التعريف التالي[6]: "يدخل في السكان النشطين جميع الأفراد المشغلين أو في حالة بطالة، بما فيهم الباحثون عن الشغل لأول مرة".

غير أن هذا المفهوم يشوبه بعض الغموض، باعتبار أن بعض البلدان لا تعتبر البطالين من السكان النشطين، كما توجد اختلافات في تحديد السن الأدنى والأقصى للدخول في هذه الفئة والخروج منها بين مختلف البلدان.


2. التشغيل:

يعرف التشغيل حسب القرار المتخذة في الندوة الدولية الثالثة عشر لأخصائيي إحصائيات العمل لسنة 1982، والمتعلقة بإحصائيات السكان النشطين، والتشغيل، والبطالة، والتشغيل الناقص بما يلي[7]: " يتكون الأشخاص الحائزون على شغل من كل الأفراد الذين تعدوا سنا معينة، والذين يوجدون خلال فترة قصيرة مرجعية من الزمن ( مثلا أسبوع أو يوم) في الفئات الآتية:

أ‌. التشغيل المأجور: وتتكون هذه الفئة من الأشخاص الموجودين في أماكن العمل ويتلقون أجرا أو راتبا، والأشخاص المتوفرين على شغل ولكنهم غائبون عن العمل.

ب‌. التشغيل غير المأجور: كما تتكوم هذه الفئة من الأشخاص الموجودين في أماكن العمل ويحققون من وراءه ربحا أو كسبا عائليا، والأشخاص المالكين لمؤسسة ولكنهم غائبون عن العمل".

في الأخير، بعدما عرفنا معنى السكان النشطين والتشغيل، نصل إلى تعريف الظواهر الناتجة عن حدوث الاختلال في سوق الشغل، والمتمثلة في البطالة والتشغيل الناقص وندرة اليد العاملة. ويمكن تصنيفهم في خانة الاستعمال الناقص لليد العاملة.



II. الاستعمال الناقص لليد العاملة:

يعتبر الاستعمال الناقص لليد العاملة الوضعية الاختلالية لسوق الشغل، بحيث يأخذ ثلاثة أشكال كبيرة وهي: البطالة، والتشغيل الناقص، وندرة اليد العاملة.

1. البطالة:

تعتبر البطالة ظاهرة معقدة، تعرفها كل الاقتصاديات مهما كانت درجة تنميتها، ولعل من المهم في البداية ذكر سبب مهم لهذه الظاهرة والمتمثل في الدونية (Infériorité)[8] الاقتصادية لليد العاملة. وبعيدا عن أسباب ظهور البطالة وما تفرضه من نقاشات مطولة، نقتصر في هذا المقام على تقديم تعريف لهذه الظاهرة وبيان أنواعها.

أ‌. تعريف البطالة: عرفت البطالة في الندوة الدولية الثالثة عشر لأخصائيي إحصائيات العمل لسنة 1982 بما يلي[9]: " يتمثل البطالون في كل الأشخاص الذين تعدوا سنا معينة، وكانوا خلال الفترة المرجعية بدون عمل، ومستعدون للعمل ويبحثون عن العمل". وبعد تقديم هذا التعريف المعياري للبطالة، نصل إلى إبراز الأنواع المختلفة لها.

ب‌. أنواع البطالة[10]:

يمكن أن نقسم البطالة إلى الأنواع التالية:

· البطالة الظرفية: يتشكل هذا النوع من البطالة نتيجة لتقليص الطلب على اليد العاملة، نظرا لحدوث تراجع عابر في التوسع الاقتصادية، مما يحدث بطالة في قطاعات معينة. وهكذا، تؤدي الحركة الظرفية للنشاط الاقتصادي في بعض المجالات، إلى تأثيرات على الطلب على اليد العاملة في سوق الشغل.

· البطالة الموسمية: تنتج هذه البطالة عن التغيرات الموسمية التي تحصل، إما على مستوى الطلب و/أو على مستوى عرض السلع والخدمات. فتعرف " بحدوث انخفاض أو اختفاء مؤقت للتشغيل دوريا، من سنة لأخرى في قطاع معين من النشاط الاقتصادي، والذي قد يحصل خلال وقت طويل نوعا ما. كما يحدث دائما في نفس الفترة من السنة بالنسبة لمنطقة جغرافية معينة". وكقاعدة عامة، تظهر البطالة الموسمية خارج الظرف الاقتصادي.

· البطالة الهيكلية: ترتبط البطالة الهيكلية طبيعيا بتطوير الهياكل. فتظهر نتيجة للحركة الدائمة لتغيرات الطلب على السلع الاستهلاكية، أو للتحول في تقنيات الإنتاج ( بطالة تكنولوجية)، أو للتغير في التوطن الصناعي. فينتج عن هذه التحولات بطالة هامة، نظرا للحركية غير الكافية لليد العاملة، سواء على المستوى الجغرافي أو المهني.

· البطالة الاحتكاكية: يظهر هذا النوع من البطالة في السوق أو بعض قطاعاته، عندما يكون العرض والطلب على اليد العاملة في حالة قريبة من التوازن. فتتمثل في فترة الفراغ الحاصلة بين نهاية عقد العمل الأول وبداية عقد العمل الثاني. بعبارة أخرى، تحصل البطالة الاحتكاكية نتيجة التأخرات في استشراف المناصب الشاغرة، وذلك راجع للمعرفة السيئة لفرص الشغل، أو للعمال الباحثين عن الشغل، وكذا الصعوبات المعرقلة اصطناعيا للسير الحر للمنافسة. وكقاعدة عامة فإن البطالة الاحتكاكية مدتها قصيرة، غير أنها قد تمتد أكثر بالنسبة للقادمين الجدد لسوق الشغل.

2. التشغيل الناقص:

يواجه مفهوم التشغيل الناقص صعوبات نظرية وعملية كبيرة مقارنة مع مشكلة البطالة، غير أنه يمكننا تعريفه كما يلي[11]

المبحــــث الثانـــي:مشكلـة التشغيــل فــي دول العالـم الثالـث

يشكل العالم الثالث كتلة غير متجانسة، متكونة من بلدان ذات اختلافات وفوارق عديدة فيما بينها. ففي البداية، يجب التأكيد على صعوبة حصر ظاهرة التشغيل والبطالة، سواء تعلق الأمر في الجانب النظري كما اتضح لنا ذلك في المبحث السابق، أو في الجانب التطبيقي، كما سنرى ذلك في هذا المبحث. بحيث تعتمد بلدان العالم الثالث على طرق مختلفة في جمع الإحصائيات، بالنسبة للسكان النشطين أو التشغيل والبطالة، مما يجعل اعتماد المقارنات الدولية أمرا مليئا بالمزايدات.

وتجدر الإشارة هنا أن الإحصائيات والأرقام المعتمدة أساسا في هذا المبحث هي من إعدادنا، بحيث قمنا بتحويل كل الأرقام الخامة الموجودة في الدليل السنوي لإحصائيات العمل الصادر عن المكتب الدولي للعمل لسنة 1997[1] إلى أرقام بالنسب المئوية (معدلات ونسب) من أجل توضيح الأهمية وإحداث المقارنات الكفيلة بفهم هذه الظاهرة وحصرها بقدر الإمكان.

فقسمنا هذا المبحث إلى ثلاثة مطالب أساسية وهي:

المطلب الأول: هيكل التشغيل في دول العالم الثالث

المطلب الثاني: مشكلة التشغيل الريفي

المطلب الثالث: مشكلة التشغيل الحضري


المطلـــب الـأول:هيكل التشغيل في دول العالـم الثالـث

تعرف دول العالم الثالث مشكلة تشغيل حادة، وذلك لأسباب عديدة أهمها المعدل المرتفع لنمو السكان الإجماليين الذي يؤثر مباشرة على حجم السكان النشطين وهيكلتهم.

أولا – السكان النشطين وهيكلتهم

إن تأثير النمو السكاني الإجمالي على نمو السكان النشطين لا يظهر في الإحصائيات إلا بعد مرور 15 سنة في أغلب الأحيان[2]. غير أن ظهوره يكون غالبا في بعض دول العالم الثالث بأقل من هذه المدة، بحيث قد تكون ست سنوات بالنسبة لمصر، وعشر سنوات بالنسبة بالبرازيل، وخمس سنوات بالنسبة للهند مثلا. فهذه الاختلافات في تحديد السن الأدنى والأقصى للسكان النشطين، تجعل المقارنات الدولية صعبة، حتى فيما بين البلدان النامية نفسها. فنظرا للارتباط الوثيق بين معدل النمو السكاني ومعدل نمو اليد العاملة، أدى ذلك إلى تميز التشغيل في دول العالم الثالث بمعدل نمو مرتفع للسكان النشطين، والذي قدر بحوالي %3,2 سنويا في العشرية 1987-1997 بالنسبة لأمريكا اللاتينية والصين، وحوالي %2,2 بالنسبة للهند مثلا.

أما في الجهة المقابلة لهذا المعدل، يوجد معدل نشاط منخفض والذي ينتج عن قسمة السكان النشطين على السكان الإجماليين والتي نمثلها بالصيغة التالية:


معــــدل النشـــاط = إجمالـــــي السكــــان النشطيـــن/إجمالـــــــــــي السكـــــــــان

أما الخاصية الثالثة، فتتمثل في النسبة العالية للشباب الأقل من 24 سنة في السكان النشطين، بحيث تقدر بحوالي %23,5 بالنسبة لمصر في سنة 1995، وحوالي %30,4 في المكسيك في سنة 1996، و %16,9 للبرازيل في سنة 1995، و %13,9 بالنسبة لهنغ كنغ في سنة 1996، بينما تقدر هذه النسبة بحوالي %11,8 بالنسبة لألمانيا في سنة 1996 مثلا.

إذن، نستنتج أن معدل الشباب الأقل من 24 سنة في إجمالي السكان النشطين يمثل نسبة كبيرة في دول العالم الثالث، مع وجود بعض الاستثناءات، المتمثلة في بعض دول جنوب شرق آسيا.

غير أنه، رغم هذه المساهمة المعتبرة في السكان النشطين لهذه الفئة، إلا أن معدلات النشاط فيها تشكل نسب ضعيفة مقارنة بالفئات العمرية الأخرى. حيث تقدر بحوالي %12,1 بالنسبة لمصر في سنة 1995 و %43,8 بالنسبة للمكسيك في سنة 1996، و %50,2 بالنسبة لهنغ كنغ في سنة 1996. بينما يصل هذا المعدل إلى %61,8 لأقل من 19 سنة فقط بالنسبة لبريطانيا. فيعتبر إذن المعدل المنخفض لفئة الشباب الأقل من 24 سنة في معدل النشاط الخاصية الرابعة.

أما الخاصية الخامسة فتتمثل في فئة النساء، التي تعتبر هي الأخرى متضررة من هذه الوضعية، بحيث تمثل نسبة السكان النشطين النسائيين معدلات ضعيفة. فتقدر في مصر بحوالي %22,0 من السكان النشطين الإجماليين في سنة 1995، وبحوالي %32,7 في المكسيك سنة 1996، و %39,0 بالنسبة لهنغ كنغ في سنة 1996. كما تمثل معدلات النشاط النسائية نسبيا ضعيفة بدورها، بحيث تقدر بحوالي %13,4 في مصر في سنة 1995، وحوالي %38,5 بالنسبة للبرازيل في سنة 1995، و %39,0 في هنغ كنغ في سنة 1996.

كما نلاحظ أيضا، أن الفارق بين نسبة السكان النشطين للرجال والنساء قد تصل إلى أضعاف كثيرة، بحيث تقدر بأكثر من ثلاثة مرات بالنسبة لمصر، وبأكثر من الضعف بالنسبة للمكسيك، وبأكثر من سبع مرات بالنسبة لباكستان. بالإضافة إلى ضعف مساهمة النساء في السكان النشطين إجمالا. يعتبر معدل النشاط بالنسبة للنساء ضعيفا بدوره مقارنة مع المتوسط العام، كما أن ال
طبيب صالح
طبيب صالح
مدير
مدير

عدد المساهمات : 128
نقاط : 244876
تاريخ التسجيل : 25/11/2010
العمر : 36
الموقع : https://stcp.forumalgerie.net

https://stcp.forumalgerie.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى